تتوهم عزيزة حياةً متخيّلة، وفقاً لما تقترحه الأفلام المصرية التي تشاهدها في تلفزيون الأبيض والأسود، فيما تجري الحياة في شارع الأعشى في الرياض على نحوٍ آخر. كان عليها أن تشحن حواسها المعطّلة قسراً، باستعارة حيوات نجمات ونجوم حقبة السبعينيات في السينما المصرية، كي تعوّض خسائرها في الفقدان. لن يكتمل المشهد كما هو تماماً، ما دامت تراه من خلف برقع، أو شاشة، أو جدار. بهبوب عاصفة رملية عاتية، تفقد عزيزة نظرها موقتاً. وحين ترافق والدها إلى عيادة طبيب مصري، تتعلّق بصوته، وبدقة أكثر بحنان الصوت. النبرة التي تذكّرها بأصوات مألوفة، بالنسبة إليها، لعله صوت رشدي أباظة، أو شكري سرحان، أو حسين فهمي. لكن سعاد حسني شارع الأعشى، ستعيش صدمات أكبر بمواكبة التحولات التي تشهدها المملكة المغلقة على تقاليد صارمة. هكذا تفكك الكاتبة السعودية بدرية البشر في روايتها «غراميات شارع الأعشى» (دار الساقي ـــ بيروت) بنية المجتمع السعودي، ومحاولات التمرّد على القيم الذكورية، فيما تقبع النسوة في الظل، ينسجن تصوراتهن عن «الآخر» عبر الصوت وحده، وخصوصاً بعد اقتحام الهاتف، اليوميات السريّة للبيوت: «الهاتف قارب نجاة ليلي» كما تقول. تتمايز حيوات النساء بين مكانٍ وآخر، تبعاً للجغرافيا التي ينتمين إليها. وضحى التي أتت من البادية بلا معيل، ستتمكن من ترميم غربتها وبؤسها، بالعمل في التجارة، في ركن من «سوق الحريم». عطوى التي وصلت إلى المدينة على ظهر شاحنة بثياب صبي، ستستعيد أنوثتها المغيّبة تدريجاً. أما عواطف فتعيش انكسار الحب الأول مع سعد ابن الجيران، وتتزوج رجلاً آخر، من دون مقدمات، فيما تكابد عزيزة في عشقها للطبيب المصري أحمد، لتكتشف متأخرة أنّ «الحياة لا تشبه الأفلام» وأنها ليست تحية كاريوكا التي هربت من مدينتها إلى القاهرة، بعدما غيّرت اسمها. وهي، في مختلف الأحوال، لن تكون «السفيرة عزيزة» كما كان ينعتها الطبيب الشاب، فتتزوج صديق والدها المسن، على أمل أن تحصل على جواز سفر وتهرب مع حبيبها. لكن آمالها ستخيب أمام وطأة واقع خشن، لا يحتمل رومانسية الأفلام المصرية التي نشأت عليها.
في موازاة هذه الأنوثة المقموعة التي «ظلّت حبيسة العباءات والأدراج والتقاليد»، تتكشف خطوط أخرى بدت تلقي ظلالها على عتبات الحياة القديمة، ذلك أنّ التطور المعماري وطراز الحياة الحديثة، أفرزا، في المقابل، تيارات سلفية متشدّدة، تجد في أي نسمة هواء وافدة، خطراً على الإيمان، ودعوة للفتنة. تيارات استقطبت شباناً إلى التهلكة تحت راية «محاربة المنكر». هكذا ينخرط سعد في الحركات التكفيرية وينضم إلى جماعة جهيمان العتيبي، الجماعة التي ستقتحم الحرم المكي (1979)، ليلقى حتفه، وهو «ينتظر كل ليلة سبعين حورية في النعيم».
تطوى صفحة السبعينيات بهذه الحادثة إذاً، لتدخل المملكة زمناً آخر، هو زمن المطاوعة، وهيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وليس «بشائر ظهور المهدي المنتظر»، كما كان سعد يحلم. وستعصف التحولّات بأفكار إبراهيم، شقيق عزيزة الذي أنهى دراسته في القاهرة، وعاد توّاً إلى الرياض، حين يشعل ناراً في برميل، ويقوم بحرق كتبه ومجلاته القديمة (أنيس منصور العبقري وخزعبلاته، عبد الله العروي، ذهب زمانه، عبد الله القصيمي). الأب من جهته، لم يعد يستمع إلى الإذاعات العربية، كما في الماضي السعيد، فقد استبدلها بالإذاعات المحلية التي تبث برامجها «من دون موسيقى، ودون صوت امرأة». اختفى صوت أم كلثوم، وحلّ مكانه الكاسيت الديني بأصوات دعاة يصرخون «يا عباد الله»، وتناسخ نموذج سعد باللحية الكثيفة والنظرة الغاضبة والحانقة، فيما ابتعدت ذكريات شارع الأعشى بانتقال العائلة إلى أحد الأحياء الحديثة التي تفتقد الألفة. تكتب بدرية البشر رواية صوت، في المقام الأول، في مقاربات سردية تنطوي على صرخات مكبوتة، ورغبات ممنوعة، وأحلام تتهاوى حيال واقع شرس تصعب رؤيته بجلاء «كنت في السابعة من عمري آخر مرّة مشيت بلا غطاء. منذ ذلك اليوم، لم أعد أرى العالم الخارجي إلا من خلف غلالة مسيّجة بالخيوط ورداء أسود».