في باكورته «أوبرا الوجع» (دار نلسن)، يكتب باسكال عساف نصوصاً شعرية غير منضبطة بتقنية أو نبرة معينة. هناك أشياء كثيرة يصادفها القارئ في هذه النصوص التي يسهم طولها في جعل الانضباط مسألة ضرورية وملحة. لا نقصد من الانضباط تقليص الشعرية المفترضة، أو قصّ خيال الشاعر، أو تحجيم معجمه، بل نتحدث عما يجعل هذه النصوص قصائد ذات مجرى لغوي وأسلوبي واضح. الطول غير المبرر يجعل النص الواحد عدة نصوص، والانتقال السريع من فكرة إلى أخرى يخلق نوعاً من الزحام غير الحميد في الصور، وقد يؤدي إلى تشتيت القارئ ومنعه من مراكمة انطباع يتناسب مع ما يقرأه.
داخل هذا التصور، يصبح عادياً أن يحضر ما هو عادي إلى جوار ما هو جيد، ويصبح طبيعياً أن لا تكتمل الصور، وأن ينقطع سياقٌ ما فجأة ليبدأ سياقٌ آخر، وأن يتجاور التهويم اللغوي مع ممارسات سريالية لطيفة، ويصبح «التفاوت» صفة عامة للديوان كله. هكذا، يمكن أن نقرأ بدايةً معقولة مثل «عابرٌ تحت المطر/ الشمس منافقة/ في اليد مقص/ سأقطع أشعتها»، ولكن الشاعر اللبناني ينتقل بسرعة إلى مشهد آخر، ومنه إلى مشهد ثالث، ثم تلمع جملة مختلفة مثل «أعطوني قصيدةً واحدةً صالحة/ وسأعفو عن كل ما كتبت»، وتليها سطور عادية تستمر حتى الخاتمة. هذا مثالٌ على التفاوت السائد في الديوان الذي (قد) يجد تبريراً ما في عنوانه الأوبرالي الذي يسمح بأصوات ومقامات أدائية متعددة، إلا أن النتيجة تبدو أقل من المتوقع. ليس غريباً أن يحدث ذلك في ديوان أول طبعاً، لكن صاحبه مدعوٌّ إلى مصارحة قاسية مع نصوصه، لعله ينتقل من حالة «النص» المتفلت إلى حالة «القصيدة» المشغولة بفكرة أو مادة واضحة. لا يشكو الشاعر من ضعف في فهم الشعر بقدر ما يحتاج إلى تنقية هذا الفهم، وإلى التحلّي بالقسوة في تعريض نصوصه للحذف والاقتصاد، قبل أن تصبح في متناول القارئ. في النهاية، ليس هناك مبرر لوجود مقطع مثل «لِمَ تحدقين بي؟/ لم تلتقطين صوراً لصمتي؟/ ألمْ تري في الماضي/ ذئباً أبياً/ يكتب الشعر/ على دمعة»، أو «أيها الحب/ أيها الطفل المتعجرف/ ترتدي بدلةً باهظة الثمن/ وتسرق أقلام الرصاص من الفنادق»، إلى جانب مقاطع مثل «لذلك الحزن الذي تقمّص ظلي/ لعينيّ ودموعٍ تأبى الانتحار من الذاكرة/ لانتظاري/ كمتسوّلٍ في شارع الحمراء/ قد تمرين صدفةً/ ويدهسني عدمُ اكتراثكِ»، أو «ريحٌ شعثاء/ تجدّل شعري/ وتقهقه في أذن الدُّجى».
مثل أغلب الشعر الراهن لدى الأجيال الجديدة، هناك احتفاءُ بشذرات من السيرة والأفكار الذاتية، ولكن الفارق هنا أن الشاعر لا يبالي بتلاقي مفردات من معاجم وأزمنة لغوية مختلفة في نص واحد، وإلا فما فائدة أن يوصف الذئب بـ «الأبيّ»، وما الذي أحضر مفردة «الدُّجى» إلى سطر مكتوب بلغة يومية وعادية. مفردات مثل هذه تتلاقى مع سطور كاملة من النوع نفسه. ولعلنا نجد كل ذلك مجتمعاً في هذا المقطع: «في زمن الأرق/ أرصفُ أكياس الرمل/ حول الانتظار/ عمري تدحرج على غفلةٍ/ والطموح قطارٌ/ مهشمةٌ أسنانه/ في غيابكِ/ أرتبُ أشعاركِ/ أكتب على الهوامش إعجابي/ وألفُّ الوجع بالنسيان/ الأماكن التي خلّفْتَها وراءكَ/ أصبحت تشبه الطوابع البريدية/ وأضعتَ رائحة الذنوب في معمعة الوصايا».