«كلام بيروت»، برنامج يومي صباحي على شاشة «المستقبل»، يبدأ باكراً قبل زملائه (9 صباحاً)، ويندرج ضمن البرامج الحوارية السياسية. تسمية البرنامج لم تأت من فراغ، بل يكتنف رمزية سياسية وحتى مذهبية لدى «تيار المستقبل». على مدى أسبوع كامل، رصدنا سبعة حوارات (من 14 إلى 21 نيسان/ أبريل)، ليتبيّن لنا أنّ المحطة تسير في خط أحادي يصل إلى حد إقصاء الآخر، مع غياب مبدأ تمثيل المذيع (ة) لوجهة النظر الأخرى بهدف إحداث توازن (ولو بسيط) في النقاش. سبعة وجوه تنضوي تحت لواء 14 آذار ـــ تحزّباً أو تأييداً ـــ توالت على هذه الحلقات من دون تسجيل «خرق» في استضافة أحد من خارج «السرب»، بدءاً بمستشار رئيس الحكومة السابق، سعد الحريري، داود الصايغ، ورئيس تحرير صحيفة «الجمهورية»، جورج سولاج، مروراً بعضو المكتب السياسي لـ«تيار المستقبل» راشد الفايد، ومدير تحرير صحيفة «النهار» غسان حجار، والنائب عن «القوات اللبنانية» فادي كرم، والمحامي إلياس الزغبي، وصولاً إلى مستشار الحريري ووزير المال السابق، محمد شطح. غالباً ما يتّكئ البرنامج على أقوال الصحف وأسرارها، في استديو تتوسطه طاولة شفافة ووراءها شاشة عملاقة تعرض المقتطفات الصحافية والرسوم الكاريكاتورية التي غالباً ما تكون مقتبسة من صحيفة «النهار». يتعاقب على الحوار المذيعان سلمان سري الدين ورولا كساب حداد، ولكل منهما أسلوبه في إدارة الحوار مع اختلاف درجة «الذوبان» ـــ إلى حدّ التوحد ـــ في سياسة التيار الأزرق. قد تختلف الوجوه والألسن، لكن المواقف عينها تكاد تخيّم على الحلقات، إلى درجة يخيّل إليك أنّ هناك مانيفستو خاصاً يُتلى على الهواء مع اختلاف في الأسلوب.
يختلف «كلام بيروت» عن غيره من البرامج، لجهة عدم احتوائه مقدمة بل اكتفائه باختصار عناوين الصحف المتداولة بجملتين، لينطلق الحوار من الأحداث اليومية المعيشة. مع الحفاظ على المحاور عينها في كل الحلقات، نلاحظ حرصاً على التركيز شبه المطلق على «حزب الله». تركيز وصل إلى درجة استحواذ الحزب على أكثر من نصف ساعة من وقت الحلقة، كما حصل يوم استضيف راشد الفايد الذي بدا أكثر الضيوف «شراسة» في المواقف. مثلاً، قال الفايد إنّ «ما يقوم به الحزب هو اعتداء على الشعب السوري»، في إشارة إلى مشاركة عناصر من «حزب الله» في معارك في منطقتي السيدة زينب والقصير السوريتين، قبل أن يطلق مجموعة من الأحكام العنصرية والمذهبية: «تحوّل من حالة وطنية إلى حالة مذهبية»، مستخدماً عبارات على شاكلة «مقاومة شيعية، ونظام سوري أقلّوي» وغيرهما.
اللافت في هذه المقابلات هو مديح الضيوف لرئيس الوزراء المكلّف تمام سلام تكريساً للفكرة التي روّج لها «المستقبل» بانطلاق تسميته من «بيت الوسط» (مقر الحريري) لتتوجّ بلقاء سلام _ الحريري في باريس. هذا الإجماع اللافت على ابن رئيس الوزراء السابق صائب سلام يكاد يشبه معزوفة موحدة يقودها قائد أوركسترا واحد!
إلى جانب هذه المعزوفة، يفرش «المستقبل» مع هذه الحلقات بساطاً زهرياً للحريرية السياسية، في صورة ترويجية مبالغ فيها تقع في إطار بروباغندا المحطة لتيارها. من خلال انتقاء الضيوف وأداء المذيع (سري الدين) أيضاً ـــ متورطاً ـــ تكتشف مدى انفتاح التيار الأزرق على باقي الفرقاء؛ فهو يعتمد سياسة «اليد الممدودة» للجميع. مع هذه الحوارات، تكتشف أن الحريري يعمل ليل نهار على حل الخلافات وإشاعة أجواء إيجابية لتذليل عقبات تأليف الحكومة. ومعها أيضاً، تكتشف أنّ أحد أكبر التيارات السياسية اللبنانية حاول إقناعنا بحرصه الدائم على الديموقراطية وعلى مبدأ تداول السلطة، وبأنّ فريق 14 آذار هو «المنقذ» الذي يحاول الأخذ بيد خصمه (8 آذار) لإنقاذه من «عين العاصفة». التمجيد للحريري تتبعه متلازمة أخرى تتمثل بـ«ضرورة» إرفاق هذه النقاشات مع «نفخ» يصل الى حد الخيال بدور المملكة العربية السعودية التي لطالما لعبت «دوراً تاريخياً» في لبنان (تدخّل طفيف وإيجابي في الوضع الداخلي). هذا بالإضافة إلى مدح السفير السعودي في لبنان علي عواض العسيري ودوره وانفتاحه على الأطراف السياسية. كي تكتمل الصورة، لا بد من التذكير الدائم بحرص المملكة على الاستقرار والتذكير بأنّ «هناك آلاف اللبنانيين العاملين على أراضيها»، من دون أن ننسى أنّها الداعم الأساسي لـ«الحزينة»، كما ورد على لسان النائب القواتي فادي كرم الذي جزم بأن «السعودية لا تتدخل ولا تعتدي على السيادة اللبنانية بخلاف سوريا». مستشار الحريري داود الصايغ أعاد على أسماع اللبنانيين الأقوال المأثورة للملوك والأمراء السعوديين في حديثهم عن هذا البلد الصغير لبنان.
البرنامج المكرّس للوجه الواحد وللسياسة عينها يخرج بشكل فاضح عن كل أصول المهنية الصحافية، ولا يختلف عن القنوات الرسمية المؤدلجة والمروّجة لصورة الملوك والرؤساء في التمجيد وتعبئة الرأي العام تجاه الآخر و«حَشْي» رأس المشاهد بعقائد وأفكار قد تكون بعيدة عن الواقع وأقرب إلى الخيال. خيال تخطاه الزمن وعقل المشاهد أيضاً الذي تكوّنت لديه درجة من الوعي نتيجة متابعته لوجهات نظر أخرى في الزمن الرقمي.