بعنوان شعري لافت هو «لا يزول»، تعرض المصورة الفوتوغرافية البارزة رندا شعث (1963) أعمالاً جديدة في غاليري GYPSUM (غاردن سيتي ــ القاهرة). تذهب شعث في صورها نحو آفاق مختلفة تغاير تلك التي استقرت في تجربتها كمصورة محترفة تعمل منذ أكثر من ربع قرن، إذ إنها جربت في أعمالها السابقة العمل على البورتريه والبروفايل كجزء من عملها الصحافي كما عملت على موضوعات وقصص صحافية مصورة انتهت بها لإنتاج العديد من الكتب المصورة. في معرضها الجديد الذي استغنت فيه تماماً عن الأبيض والأسود، وركزت على الصور الملونة، تشتغل على ما تبقى من وراء هذه القصص والوجوه. تبدو الصور أقرب ما تكون إلى قصائد معلقة على الحائط وسعي لا ينتهي إلى مراوغات مع الضوء. في السابق، كانت أستاذة التصوير في «الجامعة الأميركية» تعمل على التقنية والموضوع تحت ضغوط العمل اليومي، لكنها هذه المرة استغنت عن الإيقاع اللاهث لتبتكر حساسية جديدة تكشف عن روح هشة وحس تأملي غامر، تفارق فيه المعنى الذي قصده الشاعر قسطنطين كفافيس في تناوله لـ«الأشياء التي لا أثر لها».
تجاور عبر ٤٠ صورة بين الأطباق، وأدوات الحلاقة، والمكواة الكهربائية والمراوح القديمة
لكن شعث في الوقت نفسه، تؤكد عالمه الشعري القائم على الاستبصار والتكثيف والإزاحة، إذ تقول «سعيت هذه المرة إلى استراحة تأملية، أبتعد فيها عما عشته من أحداث على الصعيدين العام والخاص، لذلك يبرز في المعرض هذا الشعور بالارتياح الذي يجده الناظر في الصور». تفاجئ شعث زائر المعرض في الواجهة بمقطع من أحدث روايات الكاتب العراقي سنان أنطون «فهرس» (منشورات الجمل ــ ٢٠١٦): «ستكون الدقيقة فضاءً ثلاثي الأبعاد، ستكون مكاناً اقتنص فيه الأشياء والأرواح وهي تسافر، التقاطع الذي تلتقي فيه قبل أن تختفي إلى الأبد. بلا وداع، البشر يودعون معارفهم وأحبتهم فقط. أما الأشياء فهي تودع بعضها البعض، لكنها تودع البشر أيضاً، لكننا لا نستطيع أن نسمع أصواتها وهمساتها لأننا لا نحاول، قلما نلمح ابتسامات الأشياء. نعم الأشياء أيضاً لها وجوه، لكننا لا نراها». يعطي هذا الاقتباس مفتاحاً رئيسياً للتعاطي مع المعرض وعتبة للولوج إلى عالمه القائم على الحوار مع الأشياء قبل زوالها، أو الإنصات إلى حكاياتها غير المرئية. إنه متابعة فذة لأثر الزوال كما خلفته ممارسات الحياة اليومية. البطولة في الصور هذه المرة هي لما يبقيه البشر في مسعاهم اليومي، البشر الذين لطالما كانوا أبطالاً لصورها هم اليوم غير مرئيين. ما نراه هو أثرهم، ومخلفاتهم التي تتحول معها إلى أيقونات وتنفرد بالبطولة المطلقة. عبر حوالى ٤٠ صورة تجاور رندا شعث بين الملاعق والأطباق، وأدوات الحلاقة، والمكواة الكهربائية والمراوح القديمة، الصحف المهملة بقصصها على مقابض المنازل، المرايا المنسية بأرق وجوهها، الجدران التي هجرها اللون وأكسبت وحدتها شيئاً من الخلود. هناك أسرّة النوم التي تحمل روائح الرغبة وأفعالها، توابل الطبخ بحضورها الفذ وألوانها الحارقة. وكما تطارد الضوء وتراوغه، تبحث شعث عن الأحلام المنسية والرغبات المكبوتة وعن الزمن المعطل وتطارد الروائح وتعمل على توليف ذكي لعالم لا يمكن إلا أن يكون عالماً شعرياً بامتياز. عالم يكتسب حضوره من رؤية أنثوية للتفاصيل، فالمعرض لا يقوم فقط على منطق التجاور، وإنما يقوم كذلك على فكرة التوليف والسبك. إنه بناء في زمن مضى وتأمل في أفعاله بشيء من الحسية الرائقة التي تستيقظ فيها الحواس المعطلة وتفرض سطوتها.

«لا يزول» لرندا شعث: حتى 5 نيسان (أبريل) ــ غاليري GYPSUM (غاردن سيتي ــ القاهرة). للاستعلام: gypsumgallery.com