كانت المساعِدة الاجتماعيّة كاي بودن انتقلت مع ابنتها غايا من لندن قبل أربعة أسابيع فقط، وكانتا آخر الوافدين إلى باغفورد. لم تكن كاي على علم بتاريخ الخلاف حول حيّ الحقول. لم يكن المجمّع بالنسبة إليها سوى المكان الذي تقيم فيه معظم العائلات التي تهتمّ بملفّاتها.
كلّ ما كانت تعرفه عن باري فيربراذر هو أنّ وفاته أثارت شجاراً بائساً في مطبخها، فرّ على إثره عشيقها غافين منها ومن طبق البيض الذي أعدّته له، قاضياً على كلّ الآمال التي ساورتها بعد ليلتهما المتّقدة تلك.
أمضت كاي فترة الفطور يوم الثلاثاء في استراحة على جانب الطريق بين باغفورد ويارفيل، فبقيت في سيّارتها تأكل شطيرتها وتراجع رزمة ضخمة من الملاحظات التي دوّنتها. تغيّبت إحدى زميلاتها بداعي الإرهاق، فوجدت كاي نفسها مكلّفة بثلث الملفّات التي كانت موكَلة إليها. كانت الساعة تشارف الواحدة حين انطلقت في اتّجاه حيّ الحقول.
سبق أن زارت الحيّ عدّة مرّات من قبل، لكنّها لم تألَف بعد متاهة شوارعه. عثرت بعد عناء على شارع فولي، ورصدت من بعيد منزلاً لا يمكن إلّا أن يكون منزل عائلة ويدون. كانت تعرف ما ينبغي عليها أن تتوقّعه بعدما قرأت الملفّ، وبدا لها جليّاً من النظرة الأولى أن ذلك المنزل يستوفي كلّ المواصفات التي تبحث عنها.
كانت كومة من القمامة مكدّسة عند الجدار أمام واجهة المنزل. أكياس بلاستيكيّة تطفح بالنفايات، تختلط معها ملابس قديمة وحفاضات قذرة. بعض النفايات تدحرجت من التلّة وتبعثرت على بقعة العشب التي اجتاحتها الأعشاب البريّة، غير أنّ القسم الأكبر كان مكوّماً تحت إحدى نافذتي الطبقة الأرضيّة. كان دولاب سيّارة قديم رثّ مرميًاً في وسط العشب، وعلى مقربة منه حلقة من العشب الأصفر اليابس المسوّى أرضاً، يشير إلى أنّ أحدهم نقله مؤخّراً. بعدما رنّت جرس الباب، لاحظت كاي واقياً ذكريّاً يلمع في العشب قرب قدميها، مثل شرنقة رقيقة ليسروع هائل.
عاودها ذلك التخوّف الطفيف الذي لم تتمكّن يوماً من التغلّب عليه كليّاً، ولو أنّ هذا الإحساس لا يقارَن بالحالة العصبيّة التي كانت تتملّكها في بدايات عملها عند أبواب بيوت مجهولة. حتّى إنّها، في بعض الأحيان، شعرت بفزع حقيقيّ، بالرغم من كلّ تدريبها ومن وجود زميلة ترافقها عادة. كلاب خطيرة، رجال يحملون سكاكين، أطفال يعانون جروحاً شنيعة... واجهت كلّ المواقف الممكنة، بل أسوأ ممّا يمكن أن يخطر في البال، منذ سنوات وهي تجول على منازل غرباء.
لم يفتح أحد الباب عندما رنّت الجرس، لكنّها كانت تسمع طفلاً صغيراً يبكي من خلال نافذة الطبقة الأرضيّة المشقوقة إلى يسارها. دقّت على الباب هذه المرّة، فتساقطت قطعة صغيرة من الطلاء السكّريّ اللون المتقشّر وهوت على طرف حذائها. ذكّرها ذلك بوضع المنزل الذي انتقلت إليه حديثًا. كانت تودّ لو عرض غافين أن يساعد قليلًا على إصلاحه، لكنّه لم يتفوّه بكلمة. كانت كاي تقوم أحيانًا بجردة على كلّ ما لم يقل أو لم يفعل، مثل بخيل يعدّ سندات الديون المستحقّة له، فتشعر بالغضب والمرارة، وتقسم لنفسها بأنّها ستجعله يدفع الثمن.
دقّت على الباب مجدّداً بدون أن تنتظر كما كانت لتفعل في الظروف الطبيعيّة، سعياً منها لقطع حبل أفكارها. هذه المرّة، سمعت صوتاً قادماً من بعيد يصيح «انتظروا، إنّني قادمة، اللعنة!»
فُتِح الباب في حركة مفاجئة، وظهرت امرأة ملامحها حائرة ما بين الطفولة والكهولة في آن، ترتدي قميصاً قطنيّاً أزرق فاتحاً قذراً، وبنطال بيجاما رجاليّاً. كانت بطول كاي، غير أنّها هزيلة إلى حدّ أنّ عظام وجهها وصدرها تظهر ناتئة من تحت بشرتها البيضاء الرقيقة. شعرها الذي بدا واضحاً أنّها صبغَته بنفسها كان خشناً وأحمر قانياً وكأنّه شعر مستعار يغطّي جمجمة. حدقتا عينيها كانتا ضيّقتين بحجم رأس الدبّوس وصدرها شبه مسطّح.
«مرحباً. حضرتك تيري؟ اسمي كاي بودين، من دائرة الخدمات الاجتماعيّة. حللت مكان ماتي نوكس.» كانت ذراعا المرأة الشاحبتان الرقيقتان مرصّعتين بآثار بقع متقزّحة، وثنية أحد ساعديها تحمل جرحاً أحمر غير مندمل متقيّحاً. كان نسيج ندبيّ يغطي مساحة كبيرة من ذراعها اليمنى وأسفل عنقها، حيث اتّخذ الجلد مظهرًا بلاستيكيّاً لمّاعاً. عرفت كاي في لندن مدمن مخدّرات أحرق منزله عرَضاً ولم يدرك ما يجري إلّا بعد فوات الأوان.
«أَصبتِ»، ردّت تيري بعد صمت طويل. بدت أكبر سنّاً بكثير حين تكلّمت. كانت عدّة أسنان تنقصها. أدارت ظهرها لكاي، وابتعدت بضع خطوات مترنّحة في الممشى المظلم. تبعتها كاي. كانت رائحة طعام فاسد وعرق وقمامة تملأ المنزل. عبرت كاي خلف تيري أول باب إلى اليسار ودخلت غرفة جلوس ضيّقة.
لم يكن هناك أيّ كتب أو لوحات أو صور، ولا حتّى جهاز تلفزيون. لا شيء، سوى أريكتين منهكتين قذرتين ومجموعة رفوف محطّمة. الأرضيّة مليئة بالمرميّات. في إحدى الزوايا، علب جديدة من الكرتون مكدّسة لصق الجدار، تضفي إلى القاعة شيئاً من الغرابة وكأنّها دخيلة عليها. كان صبيّ صغير واقفاً عاري الساقين وسط الصالون، يرتدي قميصاً تي شيرت ويضع حفّاضة على وشك أن تنفجر لشدّة ما هي مبلولة. عمره بحسب ملفّ كاي ثلاث سنوات ونصف سنة. كان يئنّ في شكوى لاشعوريّة مثل صوت محرّك، وكأنّما عن غير قصد وبدون مبرّر، لمجرّد أن يثبت وجوده. يمسك بيده علبةً صغيرةً من الحبوب المقرمشة.
«وهذا روبي الصغير، أليس كذلك؟» قالت كاي.
نظر إليها الطفل حين سمع اسمه، لكنّه واصل نشيجه.
أزاحت تيري جانبًا علبة بسكويت معدنيّة قديمة مخدّشة عن إحدى الأريكتين المتّسختين المنَسَّلَتين، جلست وثنَت ساقيها من تحتها. راحت تحدّق إلى كاي من تحت جفنَيها المتراخيَين. جلست كاي في الأريكة الثانية. على أحد مسندَيها وُضِعت منفضة تطفح بأعقاب السجائر، بعضها سقط على المقعد. كان بوسع كاي أن تتحسّسها تحت فخذيها.
«مرحباً روبي» قالت كاي وهي تفتح ملفّ تيري.
ظلّ الولد يئن، وهو يهزّ العلبة الصغيرة التي كانت تبعث جلجلة.
«ماذا لديك في العلبة؟» سألت كاي.
لم يجب، لكنّه راح يلوّح بها بمزيد من القوة. انبثقت منها لعبة بلاستيكيّة صغيرة، طارت عبر الغرفة وسقطت خلف علب الكرتون المكدّسة. أخذ الولد يبكي. نظرت كاي إلى تيري، رأتها تحدّق إلى ابنها بوجه خالٍ من أي تعبير. تمتمت في نهاية الأمر: «ما بك، روبي؟»
«دعنا نرى إن كان بوسعنا إخراجه من هناك»، قالت كاي، مغتنمة الفرصة للنهوض ونفض أعقاب السجائر العالقة خلف ساقيها. «لنلقِ نظرة.» ألصقت رأسها بالجدار وتفقّدت المساحة الضيّقة خلف العلب، فرأت الشخص الصغير عالقاً في أعلى الشقّ. كانت العلب ثقيلة يصعب تحريكها، لكنّها تمكّنت من حشر يدها داخل الشقّ الصغير. التقطت اللعبة البلاستيكيّة وسحبتها. تبيّن لها عن كثب أنّه شخص بدين أرجوانيّ جالس مشبوك الساقين على شكل بوذا.
«ها هي لعبتك»، قالت للطفل.
توقّف أنين روبي. تناول الشخص الصغير، أعاده إلى العلبة، وأخذ يلوّح بها مجدّداً ويهزّها.
نظرت كاي من حولها. لمحت سيّارتين صغيرتين مرميّتين أرضاً على ظهرَيهما تحت الرفوف.
«أنت تحبّ السيّارات؟» سألت روبي، مشيرة بإصبعها إليهما.
لم ينظر في الاتّجاه الذي كانت تشير إليه، بل حملق بها بمزيج من الترقّب والفضول. ثمّ ابتعد مهرولاً، لمّ إحدى السيّارتين عن الأرض، وعاد ماداً يده لها حتّى تراها.
«فروووم»، قال. «توت توت.»
«صحيح»، قالت كاي. «ممتاز. سيّارة. فرووم فرووم.»
جلست مجدّداً وأخرجت مفكّرتها من حقيبتها.
«إذاً تيري، أخبريني. كيف تسير الأمور معك؟»
خيّم صمت لبرهة، ثمّ أجابت تيري: «جيّداً».
«دعيني أشرح لك قليلاً: ماتي تغيَّبَت بداعي المرض، وبالتالي فإنني أحلّ محلّها. إنّني بحاجة إلى مراجعة بعض المعلومات التي تركَتْها لي، لأتثبّت من أنّ شيئا لم يتغيّر منذ أن قابلَتْك الأسبوع الماضي. اتّفقنا؟ إذاً دعينا نرى. روبي في دار الحضانة الآن، أليس كذلك؟ أربعة أيّام في الأسبوع صباحًا، ويومين بعد الظهر؟»
بدا وكأنّ صوت كاي يصل إلى تيري من مسافة بعيدة، وكأنّها تكلّم شخصاً يقف في أعماق بئر.
«أجل»، قالت أخيراً بعد صمت.
«كيف تسير الأمور؟ هل هو سعيد هناك؟»
حشر روبي السيّارة الصغيرة داخل علبة الحبوب، ثمّ لمّ أحد أعقاب السجائر التي تساقطت عن بنطال كاي وضغط عليه لإدخاله في العلبة مع السيّارة وتمثال بوذا الصغير الأرجوانيّ.
«أجل»، أجابت تيري وكأنّها على وشك أن تغفو.
غير أنّ كاي كانت تدقّق في آخر الملاحظات التي خربشتها ماتي بشكل عشوائيّ قبل أن ترحل في إجازتها المرضيّة.
«أليس من المفترض أن يكون هناك اليوم، تيري؟ أليس يوم الثلاثاء من الأيّام التي يذهب فيها إلى دار الحضانة؟»
بدا وكأنّ تيري تقاوم النعاس، حتّى أنّ رأسها تدحرج قليلاً مرّة أو مرّتين فوق كتفيها. قالت أخيراً: «كان من المفترض أن ترافقه كريستال إلى هناك، لكنّها لم تفعل.»
«كريستال ابنتك، أليس كذلك؟ كم عمرها؟»
«أربعة عشر عاماً ونصف عام»، أجابت تيري بشرود.
كانت كريستال في السادسة عشرة من العمر، بحسب الملاحظات في ملفّ كاي. جلست بصمت لدقائق طويلة.
عند أسفل مقعد تيري، كان كوبان متصدّعان موضوعين أرضًا، في قعر أحدهما سائل قذر يشبه الدم. كانت تيري تكتف يديها فوق صدرها الهزيل المسطّح.
«ألْبَسْته ثيابه»، قالت تيري، منتزعة الكلمات بعناء شديد من أعماق ذهنها الضبابيّ.
«عذراً تيري، لكن عليّ أن أسألك: هل تناولْتِ مخدّرات هذا الصباح؟»
رفعت تيري يداً أشبه بمخلب عصفور إلى فمها.
«لا.»
«كاكا»، قال روبي وهو يتهادى مسرعاً نحو الباب.
«ألا يحتاج إلى مساعدة؟» سألت كاي فيما خرج روبي من الغرفة وسمعته يهرول في الطبقة العلويّة.
«لا، هو يذهب إلى الحمّام بمفرده»، تمتمت تيري بصعوبة. أرخت رأسها المترنّح على قبضتها، وأسندت مرفقها على الأريكة.
أخذ روبي يصيح في أعلى الدرج: «باب! باب!»
سمعته يطرق على الخشب. لم تحرّك تيري ساكنًا.
«هل أساعده؟» عرضت كاي.
«أجل»، قالت تيري.
تسلّقت كاي الدرج وأدارت القبضة المتصلّبة، فاتحة الباب لروبي. كانت رائحة كريهة تملأ الحمّام. المغطس رماديّ، عليه بقع داكنة متراكمة على طبقات وكأنّها آثار مياه آسنة، والمرحاض وسخ مضى وقت بدون أن يُفرغ أحدٌ مياه خزّانه.. قامت كاي بإطلاق المياه قبل أن تدع روبي يعتلي الكرسي ويجلس. كشّر وجهه وأخد يشدّ ويضغط محدثاً تنهّدات وأصواتاً، بدون أن يعير أيّ اهتمام لوجودها. سُمع صوت طرطشة مياه في كرسي الحمّام وانبعثت رائحة جديدة أضيفت إلى الجو الخانق في المرحاض. نزل ورفع حفّاضته المنتفخة بدون أن يكترث لمسح قفاه. أرغمته كاي على العودة وحاولت إقناعه بالقيام بذلك، لكنّ هذه الحركة بدت غريبة تماما عن أيّ سلوك مألوف لديه. وفي نهاية الأمر، قامت هي نفسها بمسحه. كانت قفاه مسمّطة، جلدها أحمر متقرّح وكأنّه ملتهب. كانت الحفّاضة تبعث رائحة نشادر. حاولت أن تنزعها عنه، لكنّه أخذ يزعق وهو يقاوم ويتخبّط، ثمّ أفلت منها وعاد مهرولًا إلى الصالون، والحفّاضة متدلّية فوق ساقيه. أرادت كاي أن تغسل يديها، لكنّها لم تجد أثراً للصابون. خرجت حابسة أنفاسها وأغلقت باب الحمّام خلفها.
استرقت النظر إلى غرف النوم قبل أن تعود إلى الصالون. كانت هناك ثلاث غرف نوم، جميعها يطفح محتواها من الباب ليزرع الفوضى في الممرّ. جميعهم ينامون على فرش موضوعة أرضًا. كان روبي ينام على ما يبدو في غرفة والدته. رأت بعض اللعب بين الملابس الوسخة المبعثرة على الأرض، لعب بلاستيكيّة رديئة النوعيّة للأطفال الأصغر سنّاً منه. وسط هذه الفوضى العارمة، فوجئت كاي برؤية أغطية على الوسادات واللحاف.
حين عادت إلى الصالون، كان روبي عاود الأنين، وهو يضرب بقبضتيه على كومة علب الكرتون، فيما تيري تراقبه بعينين نصف مغمضتين. مسحت كاي مقعد الأريكة قبل أن تجلس مجدّداً.
«تيري، أنت تتابعين برنامج معالجة الإدمان بواسطة الميثادون في عيادة بيلتشابيل، أليس كذلك؟»
«ممم..» ردّت تيري بصوت غير مفهوم.
«وكيف تسير الأمور مع هذا البرنامج، تيري؟»
انتظرت كاي الجواب ممسكة بقلمها، وكأنّ النتيجة لم تكن جليّة أمام عينيها.
«تيري، هل ما زلت تذهبين إلى العيادة؟»
«الأسبوع الماضي... يوم الجمعة... ذهبْتُ.»
واصل روبي الضرب على علب الكرتون المكدّسة.
«هل يمكن أن تحدّدي لي مقدار جرعة الميثادون التي تتناولينها؟»
«مئة وخمسة عشر ملغ»، قالت تيري.
كان بوسع تيري أن تتذكّر هذا الرقم في حين أنّها لا تذكر عمر ابنتها، غير أنّ ذلك لم يفاجئ كاي.
«كتبَتْ ماتي هنا أن والدتك كانت تساعدك على الاهتمام بروبي وكريستال. هل لا تزال تساعد؟»
ارتمى روبي ملقيًا بثقل جسده الصغير المتراصّ على كومة علب الكرتون التي راحت تترنّح.
«انتبه روبي!» قالت كاي. «اترك هذا»، أعقبت تيري بنبرة تكشف عن قدر من اليقظة لم تكن كاي قد لمسته حتّى الآن في صوتها الميت.
عاود روبي الضرب على العلب بقبضتيه، مستمتعًا على ما يبدو بالصوت الأجوف الذي يحدثه.
«تيري، هل تساعدكِ والدتك على الاهتمام بروبي؟»
«ليست والدتي... الجدّة.»
«جدّة روبي؟»
«جدّتي أنا. إنّها لا... ليست على ما يرام.»
ألقت كاي نظرة على روبي من جديد، متأهّبة لتدوين ملاحظة. لم يكن طفلاً هزيلاً. هذا ما ظهر لها بوضوح حين راقبته وحملته شبه عارٍ في الحمّام لتمسح قفاه. كان قميصه القطنيّ وسخاً، لكن عندما انحنت فوقه، فوجئت برائحة شامبو طيّبة تنبعث من شعره. كانت بشرته بيضاء ناصعة، ولم يكن هناك آثار كدمات على ذراعيه وساقيه. يبقى أنّه كان يضع تلك الحفّاضة المبلّلة المنتفخة، في حين أنّه في الثالثة والنصف من العمر.
«جائع»، صاح مسدّداً لكمة أخيرة وعقيمة تماماً إلى العلبة. «جائع!»
«تناول قطعة بسكويت»، تمتمت تيري بدون أن تتحرّك من مقعدها. تحوّلت صيحات روبي إلى نشيج وزعيق، غير أنّ تيري لم تبدِ أيّ نيّة في النهوض. من المستحيل التفاهم معها وسط هذا الضجيج.
«هل أجلب له قطعة بسكويت؟» صرخت كاي.
«أجل.»
اندفع روبي سابقاً كاي إلى المطبخ. وجدت المطبخ قذراً بقدر الحمّام تقريباً. الأدوات الكهربائية الوحيدة فيه كانت البرّاد والفرن والغسّالة. رفّ المجلى يطفح بأطباق غير مغسولة، منفضة ثانية تطفح بالسجائر، أكياس تبضّع بلاستيكيّة، وبقايا خبز متعفّن. كساء الأرض المشمّع كان دَبقًا يلتصق بحذاءَي كاي. القمامة كانت تطفح من السلّة، تعلوها علبة بيتزا تهدّد بالسقوط في أيّ لحظة.
«هنا»، قال روبي بدون أن ينظر إلى كاي، وإصبعه ممدودة صوب الخزانة المعلّقة على الحائط. «هنا!»
فوجئت كاي بالعثور في الخزانة على مجموعة من الأطعمة تفوق ما يمكن أن تتوقّعه، من معلّبات وعلبة بسكويت ومجمع من القهوة. أخرجت قطعتي بسكويت من العلبة وقدّمتهما له، فانتزعهما من يدها، وهرع مسرعًا إلى والدته.
«إذاً روبي، هل تحبّ الذهاب إلى دار الحضانة؟»
لم يردّ الولد، وبقي جالسًا على الأرض يلتهم البسكويت.
«أجل، يحبّ ذلك»، قالت تيري، وهي تبدو أكثر يقظة من قبل بقليل. «أليس كذلك، روبي؟ بلى، يحبّ الحضانة.»
«متى كانت آخر مرّة ذهب فيها إلى هناك، تيري؟»
«آخر مرّة... أمس.»
«أمس كان الاثنين. لا يمكن أن يكون ذهب بالأمس، ردّت كاي وهي تكتب في مفكّرتها. ليس هذا من الأيام التي يذهب فيها إلى دار الحضانة.»
«ماذا؟»
«أسألكِ عن دار الحضانة. من المفترض أن يكون روبي هناك اليوم. أريد أن أعرف متى كانت آخر مرّة ذهب فيها.»
«قلت لك هذا، ألم أفعل؟ آخر مرّة...»
كانت عيناها الآن مفتوحتين أكثر من قبل. نبرة صوتها لا تزال خالية من أيّ تعبير، غير أنّ العدائيّة بدأت تطفو إلى السطح.
«هل أنت سحاقية؟» سألت.
«لا»،
أجابت كاي وهي تواصل الكتابة.
«لأنّك تبدين كأنّك سحاقية.»
أكملت كاي الكتابة.
«عصير!» صاح روبي، وذقنه ملطّخ ببقع الشوكولاتة.
لم تقم كاي بأيّ مبادرة هذه المرّة. وبعد فترة صمت مطوّلة جديدة، نهضت تيري بعناء من أريكتها وسلكت الممرّ مترنّحة. انحنت كاي إلى الأمام ورفعت الغطاء عن العلبة الحديد التي أزاحتها تيري قبل أن تجلس. لم تكن مغلقة بإحكام. رأت في داخلها إبرة، قطعة قطن وسخة، ملعقة شبه صدئة وكيسًا بلاستيكيًّا صغيرًا مغبّرًا. أغلقت كاي العلبة بإحكام، ضاغطة على الغطاء أمام أنظار روبي. عادت تيري بعدما سمعتها كاي تثير طرطقة وجلبة في مكان خلفيّ من المنزل. كانت تحمل كوبًا من العصير مدّته للطفل.
«خذ هذا!» قالت، موجّهة كلامها إلى كاي أكثر منها إلى ابنها. جلست مجدّدًا، لكنّها أخطأت المقعد واصطدمت بمسند الأريكة في محاولتها الأولى للجلوس. سمعت كاي صوت العظم يصطدم بالخشب، لكن لم يبدُ على تيري أنّها شعرت بالألم. نجحت في الجلوس في محاولتها الثانية، استلقت مسندة ظهرها على الوسائد المنخسفة، وعادت تراقب المرشدة الاجتماعيّة بعينين زائغتين غير مكترثتين.
كانت كاي قرأت الملفّ بحذافيره. تعرف أنّ كلّ ما كان له قيمة ذات يوم في حياة تيري ويدون ابتلعه إدمانها. أنّ هذا الثقب الأسود كلّفها ولدين، وأنّها بالكاد تتشبّث بالولدين الآخرين. أنّها تمارس الدعارة لدفع ثمن جرعتها من الهيرويين. أنّها جرّبت جميع أنواع الجنح الصغرى. وأنّها تحاول حاليّا للمرّة الألف الخضوع لعلاج للتخلّص من الإدمان.
إنّها لا تشعر، ولا تكترث... في هذه اللحظة بالذات، فكّرت كاي، إنّها أسعد منّي.

فصل من رواية «منصب شاغر» للكاتبة البريطانية ج. ك. رولينغ، ترجمة حصرية لدار «هاشيت أنطوان» ـ الأسبوع المقبل في المكتبات اللبنانية




نبذة عن الكاتبة

ولدت ج.ك. رولينغ في تشيبنغ سودبري، جنوبي غلوسيسترشير البريطانية في 31 تموز (يوليو) 1965. حصلت على إجازة في الأدب الكلاسيكي من جامعة «إكستر»، وعاشت في فرنسا فترة قصيرة، عملت مع منظمة العفو الدولية، وانتهى بها المطاف إلى العمل في البرتغال كمعلمة حيث التقت بزوجها الأول والد ابنتها جيسيكا، وانتهت هذه الزيجة بالطلاق، ولجوء رولينغ إلى السفارة البريطانية لحمايتها من زوجها السابق. يرى كثيرون أن إقامتها في البرتغال ألهمتها شخصية سالازار سليذرين الساحر الشرير صاحب الميراث المرعب وأحد مؤسسي «هوغوورتس» في سلسلة «هاري بوتر»، ويُعتقد أن اسمه الأول مستمد من اسم الدكتاتور البرتغالي الشهير أنتونين دي أوليفيرا سالازار. عادت رولينغ إلى بريطانيا، وهناك فُجعت بموت أمها، الأمر الذي أثر كثيراً على حالتها النفسية، فعاشت حالة من الإحباط الكبير، وأقامت في تلك الفترة مع أختها دي في منزلها في أدنبرة.
في 1995 بدأت رولينغ بكتابة المغامرات السبعة للصبي الساحر هاري بوتر الذي تجلى لها أثناء رحلة في القطار من مانشستر إلى لندن، فمنحها شهرة عالمية بسبب السلسلة الشهيرة. أما «منصبٌ شاغر» فهي عمل ج.ك. رولينغ الأوّل للكبار. وقد ترجمت الرواية الى 44 لغة حتى الآن. وقد تجاوزت مبيعات النسخة الانكليزية منها المليون خلال أقل من شهر على إصدارها.






ما قيل عن الرواية

في الحوارات القليلة التي أجرتها بعد صدور النسخة الانكليزية من روايتها The Casual Vacancy في الخريف الماضي، وصفت ج.ك. رولينغ الرواية بأنها عمل «شخصي للغاية. إنها تتعامل مع أشياء كثيرة أثرت في حياتي»، من بينها الاكتئاب ومسائل الصحة العقلية. وأضافت «عندما بدأت كتابتها، كنت أدرك أنني أقدّم نسخة معاصرة مما أحبه وهي رواية كبيرة ودسمة من القرن التاسع عشر، تدور أحداثها في مجتمع صغير».
لكن ماذا قالت الصحف والمجلات الأجنبية عن الرواية:
* إنها رواية رائعة. فيها، تمزج ج.ك. رولينغ مهارتها في السرد مع قدرتها على خلق شخصيات مؤثرة قادرة على خلق عالم بريطاني بريطاني يسوده الحنان والغضب في آن. (ذا اوبزرفر – ميلفين براغ)
* كوميديا سوداء حادة مثل رأس إبرة، تكشف أمراض المجتمع الطبقي. (دايلي اكسبرس ـ ايما لي بوتر)
* استحضار مذهل ورائع للمجتمع البريطاني الراهن، إنها رواية تجتاحك على نحو عنيف ومسلٍّ في آن. لقد أبدعت ج.ك. رولينغ في تجسيد هذا المجتمع، بشجاعة وبشكل رائع. (ذا ميرور ــ هنري ساتون)
* لا يسع المرء سوى أن يُذهَل أمام مهارة رولينغ في نسج مثل هذه الشخصيات الحية ودسّها في حيوات بعضها البعض. (ذا دايلي تلغراف – كريستوفر بروكماير)
* رواية ضخمة طموحة ورائعة، ممتعة ولكنها أيضا مؤثرة جداً. إنها عمل أدبي بليغ في بريطانيا المعاصرة. إنها رواية مؤثّرة بعمق، لكاتبة تفهم بجد كينونة الإنسان والعمل الروائي. (مجلة «التايم» ــ ليف غروسمان)
* رواية متبصّرة وذات معنى والأهم أنّها رواية جريئة تتصدّى بحزم للفرضيات المتعلقة بقيمة الأفراد الأخلاقية.
(ملحق الأحد من صحيفة «استكوتلند»)
* تضجّ هذه الرواية بالحركة. غالبية الشخصيات تضجّ بالحياة، وفيها مشاهدات حادة، حادة كثيراً أحياناً، بشأن إدعاءاتهم الاجتماعية. أنها نتاج جهد مميز وحاد. (ملحق الأحد من صحيفة «دايلي تلغراف»)
* إنها رواية متبصّرة محبوكة بمهارة، ومنسوجة بحنكة، قبل ان تلتحم فصولها في النهاية على نحو شديد الذكاء. في «منصب شاغر»، أبدعت ج.ك. رولينغ في استخدام قدرتها على سرد الرواية. (مجلة «الايكونوميست»)