«تثبيت الخراب» (Installing The Ruin)، عمل ثلاثي يقدم في «غاليري تانيت» من توقيع كل من جيلبير الحاج، ووليد صادق، وجلال توفيق، وغرازييلا رزق الله توفيق، ممثِلاً رحلة في قراءة الخراب أو الطلل كما يفضل الفنان وليد صادق تسميته. من الحرب الأهلية إلى حرب تموز، تتلاشى الأزمنة، وتتخطّاها الأعمال لمخاطبة مفهوم الطلل.
ورغم أنّ الناجي في عمل وليد صادق يخرج من الحرب الأهلية، وجيلبير حاج التقط صوره عقب تدمير الضاحية الجنوبية خلال حرب تموز ٢٠٠٦، وجلال وغرازييلا توفيق يبحثان عن مدينة بيروت في سوليدير عام ٢٠٠٠، إلا أنّ تلك الأعمال المتحاورة في صالة العرض تتجرد من زمنها، وتتفلت منه إلى مخاطبة مدينة ارتبط كيانها بمفهوم الطلل.
يعرض جيلبير الحاج أربع صور فوتوغرافية طبعت على ألومينيوم (قياس ٢٢٠ x ٢٨٠ سنتم) لدمار الضاحية الجنوبية عام ٢٠٠٦. اللوحات مرفقة بنص لجلال توفيق، يتحدث عن بيروت التي تبقى مدينة طلليّة حتى بعد إعادة إعمارها. عَرض الصور بأحجام كبيرة، يحيلنا إلى هول الدمار، وقدرة معاينة التفاصيل، ولكن أيضاً إلى تثبيت اللحظة. كأن الحاج أراد أن يغمرنا هول الكارثة، ويحيط بنا من كل جهة، فتتحول القاعة التي تحتضن اللوحات الأربع إلى فضاء كارثيّ تسكنه الأطلال، ولا يمكن تجاهله ونسيانه بمجرد إعادة إعماره. هكذا، لا تنحصر صوره بعام ٢٠٠٦، وبالضاحية الجنوبية فحسب، بل تعيد استذكار جميع المراحل التي دُمرت فيها بيروت وأُعيد إعمارها. عمليات إعادة إعمار متكررة لن تخلّص المدينة من الأطلال التي تسكنها. خراب باستطاعة سكان المدينة أن يروه حتى في المباني الجديدة التي ترتفع في كل مرة من جديد. في نص سيناريو «هيروشيما يا حبي» لمارغريت دوراس، تقول الشخصية الفرنسية في الفيلم: «كما في الحب حيث ذلك الوهم بأنّه لن تكون لنا القدرة على النسيان، كذلك أمام هيروشيما، كان لي ذلك الوهم بأنني لن أنسى أبداً»، فتجيبها الشخصية اليابانية: «لم تري شيئاً في هيروشيما، لا شيء». فهل فعلاً بإمكان بيروت وأهلها أن يتوهموا النسيان؟
في فيديو Attempt 137 To Map the Drive لجلال توفيق وغرازييلا رزق الله توفيق، تأخذنا الكاميرا إلى وسط بيروت عام ٢٠٠٠، حيث كانت شركة «سوليدير» تواصل عملية إعادة الإعمار. في الفيديو، تخيم الأشباح على المدينة. عمّال يظهرون في مواقع إعادة الإعمار ثم يختفون، ليعاودوا الظهور كأشباح تسكن المدينة حتى اليوم. حتى الأعمدة الرومانية الشاهدة على بيروت منذ مئات السنين، تظهر وتختفي ضمن فضاء المدينة. تاريخ الفيديو يتحول إلى ألفية أخرى تضاف إلى تاريخ المدينة. وفي بداية الفيديو، نجابه استغراب سائق تاكسي لطلب زبون بالذهاب إلى الوسط التجاري لبيروت عام ٢٠٠٠. كأن بيروت مدينة عالقة في كبسولة زمنية يسكنها الخراب.
أما وليد صادق فيقدم تجهيزاً فنياً تحت عنوان «لو أن ناجياً» كجزء من من سلسلة «جهد الطلل» التي سبق أن عرض جزءاً منها في إفتتاح صالة «غاليري تانيت» الجديدة قبل أشهر. في غرفة، طلا صادق النصف السفلي لجدرانها باللون الأخضر الزيتي، يضع مقعداً باللون ذاته يواجه باباً مؤدياً إلى غرفة ثانية. المقعد الذي استعاره الفنان من «الجامعة الأميركية» في بيروت ثبّت عليه لوحة صغيرة كتب عليها «موتوا قبل أن تموتوا» مع اسم H.E. Fuad Hamza. فؤاد حمزة ( ١٨٩٩ـــ ١٩٥١) دبلوماسي وكاتب وباحث لبناني حصل على الجنسية السعودية، ولعب دوراً مهماً في تاريخ المملكة إثر تعيينه مستشاراً للملك عبد العزيز ومترجمه الخاص ومرافقه في معظم أسفاره الديبلوماسية. التجهيز الفني مرفق بنص يتحدث فيه صادق عن العائق الذي يشكله الناجي من الحرب في وجه سعي المجتمع إلى استئناف الحياة. ذلك الناجي/ الميت كما يصفه صادق، يتحول إلى شاهدٍ يحمل معرفة غير مرحب بها من المجتمع رغم ضرورتها. تبقى علاقة العناصر المطروحة ببعضها لغزاً من ألغاز وليد صادق، خصوصاً طرح اسم فؤاد حمزة، وقد تجهز فضاءً للناجين يتحول إلى مقبرة حية ينتظرون فيها موتهم النهائي على مقعد أخضر.
لطلما تابعنا أعمال وكتابات كل من جيلبير الحاج، ووليد صادق، وجلال توفيق على حدة، لكن لقاءهم في معرض «تثبيت الخراب»، بالإضافة إلى غرازييلا رزق الله توفيق، أثمر احتفاءً بالزمن الكارثي لبيروت. أطلال مدينة، وأشباح يسكنونها، وناجون حُكم عليهم بالموت أحياءً ينتظرون الموت النهائي. تعيد تلك العناصر الثلاثة تشكيل صورة بيروت العصية على النسيان، والمسكونة بالأطلال.

«تثبيت الخراب» ــــ حتى اليوم ـــ «غاليري تانيت» (مار مخائيل النهر ـ بيروت) للاستعلام: 03/257805



تراجيديا الخراب الأبدي

في نص «هامليت ماكينه» للكاتب هاينر موللر، تفتتح المسرحية على شخصية هاملت يقول: «كنت هاملت، وقفت على الشاطئ وتكلمت مع الأمواج المتكسرة، Blabla، خلفيَ خرائب أوروبا». عبر استعمال صيغة الماضي، وإدارة ظهره لخرائب أوروبا، يعلن موللر عبر هاملت، زمن «البوست تراجيديا». زمن عالق في التراجيديا، لكنه متفلت من الزمان والمكان المحسوسين. وفي «تثبيت الخراب»، الناجي/ الميت في «لو أن ناجياً» لوليد صادق يجلس على المقعد الأخضر ومن خلفه خرائب بيروت في صور «أطلال توفيقية» لجيلبير الحاج، ناظراً بيروتاً توفيقيةً في فيديو Attempt 137 To Map The Drive. علماً أنّ أغلب مقاعد «الجامعة الأميركية» في بيروت تدير ظهرها إلى المدينة، وتكلّم أمواج البحر المتكسرة على شاطئ الخراب. ربما هي بيروت «البوست تراجيديا». بيروت العالقة في تراجيديا الخراب الأبدي.