تختلط الأمكنة والتواريخ في «معارض» الذي نظمه وأعدّه طارق أبو الفتوح ضمن فعاليات «أشغال داخلية ٦». نستلهم مع أبو الفتوح مقولة ابن عربي «الزمان مكان سائل... والمكان زمان متجمد» لنحاول تقديم قراءة خاصة للمعرض الذي يقارب أزمنة الكارثة وما بعد الكارثة، فزمن التحولات... أزمنة يصعب حصرها في إطار زمني أو تحديد انتمائها إلى مكان محدد. بهذا المعنى، تغدو تفاصيل مثل «الإسكندرية ١٩٥٥»، و«بغداد ١٩٧٤»، و«بكين ١٩٨٩»، و«بيروت ٢٠١٣»، مجرد طبقات للمعنى تساعد في قراءة الحاضر وتشعّباته في المكان والزمان.
عند دخولك المعرض، تجد إلى يمينك الباب الأول الذي كتب فوقه «الصين/ معرض الفنّ الطليعيّ في بكين ١٩٨٩»، حيث تقدم اليوم أعمال معاصرة. في «سرّ الأسرار»، يطلق روي سماحة بواسطة الفيديو رصاصة على عمله الفني، تعيدنا إلى الرصاصة التي أطلقت في «معرض بكين ١٩٨٩». يومها أطلق الفنانان تانغ سونغ وإكزياو لو النار على أعمالهما ليصار إلى إغلاق المعرض في اليوم ذاته، ثم يعاد افتتاحه مرتين قبل إغلاقه نهائياً بعد أسبوعين. إطلاقة الرصاصتين تلك قرأها بعضهم كنبوءة لأحداث «الميدان السماوي» لترافق سقوط جدار برلين، والشيوعية، وبداية مرحلة جديدة كُرّست بعنوان العولمة. إعلان لموت أبدي وزمن كارثي. هكذا تصبّ سيو مِن جيونغ طيوراً ميتة في البورسلين، فتتجمد لحظة الموت لتتحول إلى تفاصيل تتجسد جمالاً مطلقاً. يقابلها اختفاء جسد المسيح الميت من لوحة «هانز هولباين الإبن» من القبر، ليبقى الأخير حفرة بيضاء مستطيلة مفتوحة في جدار المعرض تشح موتاً في الفضاء المحيط بها في عمل لوليد صادق. أما «بيروت مدينة مفتوحة» لصادق أيضاً، فتتجلى في مكب خاوٍ. ومدينة مكة كناية عن بنايات تموت وتتساقط لأحمد ماطر. ولا يبقى من المعارك بين كوريا الشمالية والجنوبية في عمل بارك شان كيونغ سوى ألواح خشبية لديكورات في «مواقع تصوير». ذلك الزمن الكارثي سيترجمه هو تزو نيان في فيديو «الأرض» بجمالية فائقة، تظهر ٥٠ كائناً بشرياً يتأرجحون بين الوعي واللاوعي، وبين الحياة والموت، في موقع كارثة غامضة، لا مكان أو زمان لها، بل كارثة أبدية. يستلهم نيان تركيبة صوره ببراعة من لوحات لكارافاجيو وجيروديه وغيريكو، ليُختتم ذلك القسم بعمل مينيمالي لسونغ تا، حيث يكتب على ورقتين صغيرتين معلقتين على الحائط بخط يده ما حُرم من مناداته أي «بابا وماما»، إذ إنه ولد ثانٍ أعاد أهله تبنّيه تحايلاً على قانون حدّ النسل في الصين. ذلك العمل ببساطته يرسم صورة بليغة عن زمن الكارثة الذي تُقتل فيه الهوية ويُجبر فيه الفرد على التنكر للمعرفة. حالة موت أبدية.
أما الباب الثاني إلى يمين المعرض، فيدخلنا إلى «معرض السنتين العربي الأوّل» للفنّانين العرب في بغداد عام ١٩٧٤. هنا ندخل عالم ما بعد الكارثة. في مقدمة الكاتالوغ الصادر عام ١٩٧٤ في بغداد، يحدّد القائمون على المعرض هدفه بـ«تحقيق شخصية فنية عربية واضحة في خضم التيارات الفنية العالمية». كان ولادة «معرض السنتين» نتيجة للإيمان بفكر قومي عربي. لكنّ «حرب أكتوبر» وتدفّق أموال البترول الخليجية سوف يلقيان بثقلهما على المشاريع القومية في المنطقة، ليتوقف المعرض مع دورته الثانية في الرباط عام ١٩٧٦. سقوط حلم الوحدة العربية، وبدء سقوط الأيديولوجيات الكبرى في تلك المرحلة، سوف يدخلاننا إلى زمن ما بعد الكارثة. عبر فيديو «حياة الظلال»، يهزأ تشاو من الايديولوجيات، كما يهزأ خليل رباح من ممارسات إنتاج وتنظيم المعارض وزيارتها في «إنت فين والحب فين». هكذا أيضاً يظهر حلم رائد الفضاء السوري محمد فارس بغزو الفضاء، في عمل علي شري. حلم وهميّ لأمة تهاوى مع فعل إنزال الرئيس بشار الأسد تمثال أبيه الرئيس الراحل حافظ الأسد، كأنه بفعل إنزال التمثال وتغطيته وإيداعه في مستودع، وضع معه حلماً وهمياً أصاب الأمة يوماً. زمن ما بعد الكارثة يضج بكائنات ثملة في عمل منيرة الصلح، ويسيطر عليه السحر والشعوذة في «سر الأسرار» لروي سماحة، ليحطّ في فضاء شبحيّ لباسم مجدي. عالم يعيد رسمه وانغ نينغده في صور فوتوغرافية هائمة خارج الزمان والمكان. جميع تلك الأعمال تمتد إلى الوراء في التاريخ والتوثيق والذاكرة، لكنها تصب في حاضر فوضوي ما بعد كارثي يحكمه التكرار والسحر والضجيج وانكسار الأحلام.
بعد عالم الكارثة في بكين الذي يقابله عالم ما بعد الكارثة في بغداد، نرى في وسط المعرض (الباب الثالث) عالم التحولات في معرض «بينالي الإسكندريّة الأوّل لفنون دول البحر المتوسط» عام ١٩٥٥. في كتابه «مستقبل الثقافة في مصر» الصادر عام ١٩٣٨ ينادي طه حسين بالوحدة بين بلاد البحر المتوسط الثقافية، مطلقاً حينها عليها إسم «ملتقى». يستشهد في كتابه بأمثلة من التاريخ والحضارات عن محاكاة إبداعية وثقافية بين بلاد البحر المتوسط التي تشمل بلدان الشرق الأدنى، وشمال أفريقيا وجنوب أوروبا. ذلك الطرح جاء بُعيد انهيار الدولة العثمانية، وبداية مرحلة تأسيس الدول العربية في المنطقة، وقُبيل تبلور حلم القومية العربية بقيادة جمال عبد الناصر. زمن التحولات ذلك سيترك أثراً على ٢٨ قطعة من الفن الإسلامي في رحلتها بين «لوفر» باريس و«لوفر أبو ظبي» في عملين لوليد رعد كناية عن صور فوتوغرافية وفيديو. كما ستقوم إيمان عيسى بعملية دراسة/ إعادة إنتاج معاصرة لأعمال فنية موجودة سابقاً، واصفة الأعمال القديمة عبر نص وضعته إلى جانب الأعمال الجديدة التي أنتجتها. أما الفنان الأميركي الفلسطيني نداء سنقرط، فيحول شاشة إلى مسرّبة للضوء بدلاً من أن تعكسه، كما يحول تشاو العولمة إلى يوتوبيا جديدة في حياة عمال مصنع «أوسرام» في الصين، ويعيد وائل شوقي مع مجموعة من الأطفال يتكلمون بأصوات رجال إنتاج قصة شامان في حيّ «العرابة المدفونة» في مصر (فيديو). في قلب جميع تلك التحولات، أمل بالنهوض من الكارثة وفوضى الما بعد الكارثي.
لا يمكن تجاهل السوداوية المغلفة لـ «معارض» رغم بروز بعض الأمل في القسم الأخير. لكن في اختيار طارق أبو الفتوح للمحطات التاريخية الواردة في المعرض، نقطة مشتركة تكمن في الدور الفعّال الذي لعبه الفنانون والمثقفون في صنع ونقد الحالة السياسية/ الثقافية في تلك المراحل. هل يسائل أبو الفتوح اليوم الفنانين المعاصرين عبر أعمالهم عن دورهم في ظل التقلبات الجذرية الحاصلة حولنا؟ في المساحة المتوسطة للمعارض الثلاث، وضع أبو الفتوح مكتبة صغيرة تتضمن كتباً عن الفن وتاريخ الفن في المنطقة. بين الكتب، نجد لوحة صغيرة تذكر «الندوة اللبنانية» التي امتدت من عام ١٩٤٦ حتى ١٩٧٥، مع اقتباس لرينيه حبشي كتبه عام ١٩٥٤ جاء فيه: «يبدو لي أن أفضل ما تقدمه «الندوة اللبنانية» بمنبرها الحرّ إلى الأمة أنّها تحضر أرشيف المستقبل». فهل يطالب أبو الفتوح بيروت ٢٠١٣، والفنانين عموماً باستعادة ذلك الدور؟


«معارض»: حتى ١٠ حزيران ــ «آرثيوم» (تقاطع كورنيش النهر ومار مخايل ـ بيروت) ـ للاستعلام: 71/781783
* مقالات أخرى عن «اشغال داخلية» على موقعنا.



تجربة غنية

في «معارض»، يقدم المعدّ الفني المصري ومدير «صندوق شباب المسرح العربي» طارق أبو الفتوح تجربة فريدة وغنية في إعداد المعارض الجماعية. جمع 18 فناناً من أجيال وخبرات وجنسيات مختلفة، وقدم أعمالهم في تناغم تام، وتكامل مع فكرة المعرض العامة. استطاع دفع الأعمال إلى محاورة بعضها وأضفى عليها معاني جديدة مرتبطة بسياقها الجديد المطروح في المعرض.