أهكذا يستدرجنا الإعلامي مارسيل غانم إلى انحطاطنا وبؤسنا؟ يرينا أبشع ما فينا، ويعكس لنا قبحنا، ليس من باب الفضح والإدانة، والتحذير من الانتحار الجماعي، وخلق صدمة تعيد الجماعة إلى صوابها، بل من باب تكريس البشاعة وتشريعها «ميثاقاً وطنيّاً» جديداً. أوّل من أمس، في «كلام الناس» على lbci، (حلقة القصير)، كان الإعلامي اللبناني يلعب بموتنا، دافعاً إلى الذروة ما جرّبه مراراً بجرعات أصغر، هو وآخرون في المشهد الفضائي العربي المخزي والركيك.
استجداء نسبة المشاهدة العالية على حساب الذوق والأخلاق والمنطق واحترام الكرامة البشريّة والقواعد المهنيّة والاعتبارات الوطنيّة والإنسانيّة. إنّه الأداء الإعلامي المتهوّر يشكّل لدى محطّات عدّة اليوم (نريد أن نستثني منها lbci) جزءاً من مخطط مموّل بمئات ملايين الدولارات لتمزيق المنطقة وتفتيتها وإغراقها في الفوضى، في مستنقع حروب أهليّة بلا قرار…
ما شهدناه ليس تجاوزاً عابراً أفلت من إدارة الحلقة، ولا استثناءً خرج عن السيطرة، وهذه أمور تحدث في اللحظات المأزومة وفي النقاشات المتوترة. لقد قامت الحلقة على وصفة جاهزة هي البحث المنهجي عن العنف واستدراجه واستقطابه وبناء الاستراتيجيّة الإعلامية على جيفته العفنة. هذا يشبه القتل المتعمّد. «نحن شعب همجيّ ـــ كأننا بمارسيل يقول لنا ـــ وأنا سعيد وفخور بذلك، أو غير عابئ في أفضل الحالات… وسأتاجر بوسخكم، سأكرّسه على الهواء قاعدة ونهجاً وعقيدة». كيف يمكن أن يجمع برنامج سياسي، في حلقة واحدة، هذه الكميّة من الحقد والتعصّب والشعبويّة والعنف والهمجيّة وقلّة الأدب والذوق والمسؤوليّة؟ هذا ليس تلفزيوناً، تلك آلة قتل. هل هناك من يسائل مارسيل غانم، من يسائل بيار الضاهر، ويضعهما أمام مسؤولياتهما المعنويّة والماديّة بعد تلك الحلقة المؤسفة من «كلام الناس»؟ النخب السياسيّة تتفرّج بشبق، فتلك بضاعتها وهذا بؤسها وإفلاسها… فماذا عن المؤسسات المهنيّة الضابطة؟
لبنان اليوم على قاب قوسين من الجاهليّة، من همجيّة تعيدنا إلى ما قبل التاريخ. أدغال مريعة يعكسها الإعلام يوميّاً، كل شيء فيها ممكن: «الثورة» باسم التعصّب، والقتل المعنوي (والجسدي) باسم الديموقراطيّة، والفاشيّة باسم الدين، والعمالة والارتزاق باسم الوطنيّة، واستباحة هيبة الدولة باسم التعدديّة، والمذهبيّة باسم حريّة المعتقد. هكذا صار المرتزق بطلاً قوميّاً، وأصبحت الطائفيّة وجهة نظر، والعنصريّة من الفضائل الوطنيّة… وليس من يعير هذا الكابوس اهتماماً، أو يعبّر عن اعتراضه وسخطه. بات التحريض على العنف الأهلي إعلاماً ديموقراطياً، ولا أحد يرفع الصوت ويقول كفى! لبنان دخل زمن الجاهليّة، وكلّنا مسؤول عن ذلك. البلد الذي «علّم الحضارة للعالم» (على ذمّة سعيد عقل) ارتمى في أحضان الهمجيّة، كما لم يفعل في أحلك لحظات الحروب الأهليّة السابقة. وكلّنا متواطئون وكلّنا شهود زور. وإلا فكيف نقبل بأن تقدّم لنا المذبحة على طبق من فضّة، عبر محطّة مرموقة، تحظى بنسبة مشاهدة عالية، في برنامج حواري يفترض أن يكون مرجعاً للحياة السياسيّة اللبنانيّة؟
كل وجهات النظر ممكنة ومطلوبة في نقاش ديموقراطي. ولا يمكن الإفلات من حدّة النقاش أحياناً، وخصوصاً في ظل الظروف الاستثنائيّة التي نعيش. لكن، ولأننا نعيش مفترقاً خطيراً، ولحظة حرجة مؤلمة لكثيرين في مختلف المواقع، فإن الحذر واجب أكثر من الحالات العاديّة، والعقلانيّة مطلوبة، والصرامة المهنيّة، وضبط الأعصاب، وتقديم النموذج الهادئ للجمهور. قد يأتي من يردّ على هذا الكلام قائلاً: «قمنا بواجبنا، ذلك هو الواقع فهل نتجاهله على طريقة النعامة؟». هذا المنطق فيه تزوير وديماغوجيّة وكذب. أي وحش بشع يتسرّب من لاوعينا الجماعي يصبح ظاهرة وطنيّة وأمراً واقعاً علينا التعاطي معه كأحد أطراف المعادلة؟ وأي مهرّج دموي يطلع من الزوايا النتنة المظلمة في لاوعينا الجماعي، يصبح شريكاً في الوطن؟ وأي طائفي ومذهبي غبي، نشرّع له الهواء باسم حق المشاهدين في أن يعرفوا؟ كلا، الإعلام الحرّ ليس تشريع الجريمة! للنقاش أصول في أصعب الظروف، واختيار أطراف النقاش والمشاركين فيه وطريقة إدارته وطرح الأسئلة الصحيحة، عناصر حاسمة في تحديد وجهة هذا النقاش وأهدافه وهويّته وخطابه. حين نطلق العنان للأهواء والغرائز والهستيريا المذهبيّة والحقد، حين نفتح الهواء للخطاب المتطرّف والأصولي والمذهبي، فإننا لا نخدم الديموقراطيّة بل نحرّض عليها، ولا نعكس الواقع السياسي، بل نساهم في تشويهه، وتطييف الناس، وتعزيز انقسامهم، وتحريضهم على العنف الأهلي. أستاذ مارسيل، المذهبيّة ليست وجهة نظر، والعنف ليس مسلكاً سياسيّاً، والغوغائيّة لا تتعايش مع الديموقراطيّة.

يمكنكم متابعة بيار أبي صعب عبر تويتر | PierreABISAAB@





هيدا بلد مجانين

على مدى أكثر من ساعة ونصف الساعة، شهدت مواقع التواصل الإجتماعي كمّا هائلاً من التعليقات المستنكرة لما ورد في حلقة «كلام الناس» الصاخبة أول من أمس. «مارسيل غانم وضيوفه باتوا خطراً على السلامة العامة في لبنان» كتب أحدهم على تويتر، فيما قال آخر إنّ الإعلامي اللبناني مصاب بـ«لوثة العظمة»، كما نصحه شاب بـ«التوقّف عن استقبال السياسيين من الطرفين، لأنّه كتير هلقد جرصة». وفي الوقت الذي رأى بعض روّاد فايسبوك وتويتر أنّه على غانم «إنشاء متاريس بين الضيوف أو تسليمهم مدافع»، ثمّن كثر الجملة التي ختم بها الحلقة: «هيدا بلد مجنون».