رغم أنه يضم يوميات كتبها أمجد ناصر (1955) عن حصار بيروت سنة 1982، إلا أن كتاب «بيروت صغيرة بحجم راحة اليد» (الأهلية ــ عمّان)، يروي بطريقة واضحة أو مواربة علاقة هذا الشاعر الأردني بالعاصمة اللبنانية التي شهدت ولادته الثانية أو «المدينة التي ولدتُ من رحمها باختياري» كما يقول في وداعها في الصفحة الأخيرة من اليوميات. الطموح الشعري الذي قاده إلى المدينة في النصف الثاني من سبعينيات القرن الماضي، لا يزال يتراءى بين سطور هذه اليوميات الشديدة النثرية، مثلما تراءت بطرق مختلفة في قصائده وحواراته أيضاً.تسرد اليوميات حصار أول عاصمة عربية، وأحوال ساكنيها تحت القصف الإسرائيلي، وانتهاء ذلك بخروج المقاومة الفلسطينية، ومعها مثقفون وكتّاب وفنانون عرب عملوا في صحافتها وتنظيماتها الثورية، إلى شتاتٍ آخر.

نقرأ عن تلك البيروت التي «حررت البندقية من يد وزارات الدفاع الغائبة عن الوعي، والكتاب من يد الرقابة الغاشمة، والصحيفة من مطابع الكلس، والإنسان من قلاع الخوف»، والتي كانت تحت الحصار «تويجاً عارياً، مرتعشاً، أمام شفرة فولاذ تهوي على الجميع». صحيح أن اليوميات تركز أكثر على الانطباعات السياسية والتفاصيل الحربية ويوميات الحصار الشخصية والعامة، لكن مذاقات الثقافة والكتابة تسري تحت السطح المتدفق والسريع لحركة الأحداث والتطورات المرويّة، ويتوالى تأريخ هامشي، لكنه حاسم، لرحلة الشاعر إلى بيروت، وزواجه فيها، ومساهمة المدينة كمختبر شعري وحداثي في صناعة اسمه، ونقل تجربته الشعرية من طور إلى آخر. رحلة تقاطعت مع رحلات أقران آخرين أغوتهم المدينة المتعددة والمنفتحة. أسماء من زمن أسبق مثل سعدي يوسف ومعين بسيسو ومحمود درويش وغالب هلسا وحيدر حيدر وسليم بركات وميشيل النمري وطاهر العدوان، تتجاور تحت الغارات الإسرائيلية مع أسماء من زمن أحدث، مثل غسان زقطان وزكريا محمد اللذين شكّلا مع المؤلف نفسه ثلاثياً شعرياً ضاقت به مناخات عمّان، قبل أن يصل الثلاثة بطرق مختلفة إلى بيروت. وإلى جوار هؤلاء، ترد أسماء كثيرة عملت في الصحافة والرسم والإذاعة والسياسة في تلك الحقبة.
يُعيدنا صاحب «رعاة العزلة» ثلاثين سنة إلى الوراء، ليضعنا مجدداً أمام ذلك الصيف الملتهب الذي سيرسم خريطة مستقبلية كاملة للمنطقة. جزءٌ من قوة اليوميات موجود في أن صاحبها «لم يحاول أن يعيد النظر في الحكاية، لم يضع هوامش أو تعليقات تعكس وعياً لاحقاً»، بحسب ما كتب الشاعر غسان زقطان في مقدمته التي يشير فيها إلى أن «قيمة هذه اليوميات تكمن في عدم ادعائها، وفي احتفاظها بطاقة الوهلة الأولى. ليس هناك بحثٌ عن بطولة ما، الأشخاص الذين يتجولون فيها أبسط بكثير من حيلة البطولة وبلاغتها، وأكثر قرباً من إنسانيتهم». إشارة مثل هذه يمكن معاينتها في صفحات كثيرة من اليوميات التي تلتقط الخوف والقلق والحالات البشرية العادية. حتى اللحظات التي يظهر فيها ياسر عرفات فجأة تتحول إلى فرصة لتجويف رمزيته حين يطلب «إبرة وخيطاً ليخيط بنطاله المفتوق»، «بينما تبحث الطائرات الإسرائيلية عن مقرّه لتقصفه». الشاعر نفسه غالباً ما يتوارى في الخلف، سارداً أخباراً وحكايات عادية تحدث له ولآخرين. الحصار متواصل، لكنه يستطيع مشاهدة «امرأة من نافذة مقابلة لبناية «الحمرا سنتر» تتزين أمام المرآة مواصلةً التقاليد الأنثوية لزمن السلم». ينتقل بين بيته وبيوت الأصدقاء حسب شدة القصف وخريطة الغارات، حاملاً مع متاعه البسيط دواوين لسعدي يوسف ودرويش وكافافي وريتسوس وريلكه وأنسي الحاج. تحت عنوان «نصوص من الحصار»، يضع في نهاية اليوميات مقاطع له، وقصيدة لسعدي وأخرى مشتركة لدرويش وبسيسو، قبل أن يضع فصلاً بعنوان «العودة إلى الفردوس المفقود»، كتبه إثر زيارته للمدينة بعد 14 عاماً من مغادرتها مع مقاتلي المقاومة الفلسطينية. لا تُهمل اليوميات أي تفصيل في مجريات الحصار التي انتهت بخروج المقاتلين من بيروت، لكن ذلك لا يحوّلها إلى ملاحظات وتدوينات جافة. صحيح أن المؤلف يقول في مقدمته أنه «لم يفكر في الجانب الأدبي، أو الزخرف البلاغي، عندما كان كل شيء يتراقص على الخيط الدقيق المشدود بين الحياة والموت»، إلا أن النص لا ينجو تماماً من مذاقات أدبية موجودة أصلاً في نبرة الشاعر ومعجمه. لا يكتب الشاعر «قطعةً أدبية» طبعاً. الواقع المضغوط تحت الحصار والحرب لا يسمح بترف مثل هذا، لكن الأسى الشخصي المبثوث بين السطور، والرثاء الخافت لمدينة سيقول لها وداعاً كما فعل معلّمه كافافي في وداعه للاسكندرية في قصيدته الشهيرة، كل ذلك يرطّب الجفاف والحيادية المتوقعة لليوميات التي يسدد بها الشاعر ديناً للمدينة التي طبع فيها باكورته «مديح لمقهى آخر»، قبل أن تترسخ تجربته في دواوين لاحقة.



مدينة عربية

لا يتعمد أمجد ناصر ذلك، لكن يومياته تمتدح بيروت المدينة العربية الوحيدة التي تحظى بذاكرة أهلها، وذاكرة الشعراء والكتاب الذين عاشوا فيها. لقد شهدت بيروت الولادات الثانية لهؤلاء، قبل أن يتركوها إلى بلاد ومنافٍ أخرى. ولعل حصارها الشهير كان آخر مرة تظهر فيها هذه الصورة التي خسرت مكوّنها العربي، وباتت مدينة لبنانية تعيش على أمجاد تلك الحقبة.