في مجموعته «تبسيط شعري لحياة تستعمل لمرة واحدة» (دار نلسن)، وهي الثالثة له بعد «نقف ملطّخين بصحراء» (1996) و«على طريقة لوركا» (2008)، يكتب حمد الفقيه نصوصاً متحررة من الاتفاقات التقليدية حول قصيدة النثر الراهنة. لا نقرأ هنا قصائد منجزة بنثر شبه جاهز ليكون شعراً، ولا يكترث الشاعر بأن تنجز نصوصه شعريةً محدّدة سلفاً. لا تزال اللغة هنا منذورة لمهارات وحساسيات أسلوبية لا تلتحق أوتوماتيكياً بما يحدث في «سوق» قصيدة النثر. توصيفٌ مثل هذا يكاد ينطبق على غالبية التجارب الجديدة في الشعر السعودي، ولكن تجربة الفقيه تبدو أكثر نثرية من تجارب أقرانه. ما نقرأه هو نثر صادرٌ عن موقف شعري، ولكن الموقف لا يُترجم شعرياً في المجموعة كلها. هناك صور وسيناريوات شعرية في المجموعة، ولكننا نجد لغةً مشروطة ومحاكمات عقلية وإفادات شديدة النثرية. أحياناً يكون ذلك جزءاً من مسألة الكتابة نفسها، كما في «كنتُ أعتقد أن أيّ علاقة بين الشعر وأي حياة، هو ما نستطيع أن نحرفهُ من قدر أي كلمة. أما الآن فلم أعد أحتمل شيئاً من ذلك. بل إنني أقل حماساً للذهاب بعيداً بتلك الخرافات القديمة في ما يخصّ تركيب المعرفة الشعرية».
المقطع السابق هو تصريحٌ شخصي عن ضجر الشاعر من المواظبة على زحزحة الكلمات عن معانيها وسياقاتها القاموسية، ودعوة واضحة إلى القارئ لكي يتفهم جرعات النثر الزائدة التي يجدها في المجموعة. رغم ذلك، يبقى «القليل من الشعر»، بحسب عنوان النص الأول، وهو ليس قليلاً في الواقع، ولا يخضع لفكرة كمية هذا الشعر، بل لنوعية اللغة التي يُكتب بها وحساسيتها. الحساسية هي التي تجعل هذه النصوص مقنعة. الإقناع لا يمنح جودةً موحَّدة لها، ولكن ذلك يُصالح القارئ مع ما يقرأه على الأقل. هكذا، يصبح طبيعياً أن يستهلّ الشاعر أحد نصوصه بجملة تصلح لمقال مثل: «إذا كان لا بدّ أن نعرّف الشعر…». النثرية المتوافرة على الإخبار والجدال وسوق البراهين على آراءٍ ومقولات موجودة في مقاطع أخرى أيضاً، ولكن هذا يتحول مما قد يبدو ملاحظة سلبية إلى مزاج محبَّب في الكتابة، حيث يفضل الشاعر أن تنشأ انطباعات القارئ من هذه النثرية التي يتأجل تأثيرها إلى خاتمة كل مقطع. في الطريق إلى هذه الخاتمة، نقرأ عن «حياةٍ بحجم بقعة منيّ على ملاءة»، وعن «امرأة تحرك شتاءً تحت إبطيها»، وعن شاعر يكترث «بتأليب كلمةٍ على ماضيها»، وعن «حياة كتلك التي نصنع ماضيها من وجاهة أخطائنا»، و«أن الكتابة كأيّ عادة سيئة ليست نقية تماماً، وليست مضمونة كمزاج امرأة». السطور والصور السابقة تشي بأن متانة اللغة التي كُتبت بها تضاعف الانطباع النثري الذي تخلّفه لدى المتلقي. اللغة هي المسؤولة حتى عن حجب بعض الصور الأخرى بفصاحتها وابتعادها بدرجات متفاوتة عن لغة الكلام اليومي وشعرية التفاصيل المهملة. قد لا يختلف الشاعر كثيراً عن شعرية الحياة اليومية، إلا أن الحياة اليومية نفسها هي الغائبة إلى حد ما عن مناخات المجموعة، وهو ما يجعل الفصاحة والمتانة تحظيان بحضور أكثر كثافة، وتكثِّران الصور والاستعارات المصنوعة من ألاعيب وتأملات لغوية تحدث داخل المخيلة والمعجم، حيث يصبح الشاعر على «صورة نبيٍّ وهو يتقلّبُ في برية الوحي».