القاهرة | يعلن شبّان إسلاميون نيّتهم التوجه إلى وزارة الثقافة، لفضّ اعتصام المثقفين المطالبين بإقالة الوزير الجديد علاء عبد العزيز، فيكتب سامح سمير، أحد أشهر الساخرين المصريين على الفايسبوك: «من زمان ما شفناش (معارك) ثقافية». في الاشتباك بالأيدي والحجارة أمام وزارة الثقافة، بدا كأنّ صراع الهويّات نزل حرفياً إلى الشارع.
سيولة الثورة وما بعدها حولت الدفاع عن الأفكار إلى صراع واقعي بالأيدي والنواجذ، محولاً الخلاف حول المؤسسة من السياسة إلى وقفات تلتصق واقعياً ببوابات الحديد وتبيت في المكاتب والقاعات الرسمية، ومحولة أسئلة «من نحن؟» و«ما هويتنا؟» إلى تراشق حجارة واشتباكات ومطاردات على الكورنيش لإبعاد الغزو الإسلامي أو إتمام التمكين والشرعية.
يستعير القيادي الإسلامي ممدوح إسماعيل خطاباً يعود إلى ستينيات القرن الماضي، فيدعو إلى تطهير الوزارة من «الشيوعيين»، ويعود شباب الإسلاميين إلى الوراء أكثر، فيهتفون على الرصيف المقابل للوزارة «يسقط يسقط كارل ماركس»! ويندد المؤيدون للوزير بـ«الفساد في وزارة الثقافة»، وهو فساد ـــ وإهدار ـــ يقر بوجوده معظم المثقفين أنفسهم. لكنّ الإقالات المباشرة وشبه العشوائية، التي نفّذها الوزير المجهول، لم تبد متسقة مع أي إجراء قانوني يتطلب تقديم الأدلة والإحالة إلى الأجهزة المختصة، وإنما بدت «أخونة» كغيرها بانت ملامحها بتعيين إسلاميّ آخر هو خالد فهمي رئيساً لدار الكتب والوثائق القومية، في لمحة ساخرة تقريباً لتشابه اسمه مع خالد فهمي المؤرخ الشهير ورئيس قسم التاريخ في «الجامعة الأميركية في القاهرة»، ما دعا الصحافة إلى تسمية الأخير بـ«الأصلي»، والأول بـ«الإخواني».
في القلب من الصراع، تبدو كلمة «فساد» ملتبسة المعنى. بينما تفهمها الصحافة والمثقفون في سياق الفساد المالي وغياب الشفافية، يبدو «الفساد» حسب الإسلاميين متمثلاً في «الأفكار المعادية للدين» التي روّجتها وزارة الثقافة عبر سنوات طويلة في سياق صراع الأنظمة السابقة مع الإسلاميين، واستعانتها بـ«العلمانيين والماركسيين» لتولي مسؤولية إصداراتها وأنشطتها الثقافية.
لكن السيطرة «العلمانية» المزعومة على الثقافة، لم توحِ بها فحسب غلبة اليسار القومي على عالم الإبداع الثقافي المصري في عمومه، ووجود (القومي) بهاء طاهر و(الماركسي) صنع الله إبراهيم على رأس اعتصام المثقفين، وإنما جاءت بالأساس من النقص الفادح لأي إنتاج إسلاموي في مجالات الأدب والفنون. غياب ليس مستغرباً في ظل تحريم الإسلام السياسي لمعظم أشكال الإبداع، أو فرضه قيوداً مشددة تفرغ الفنون من جمالياتها. وبهذا المعنى، فإنّ أي «تطهير» من قبل جماعة الإخوان لوزارة الثقافة، لا يُنتظر أن يكون سوى انتقال من قاعات المحاكم التي طالما طارد فيها الإسلاميون الفنانين، إلى حصار الفن من أعلى.
بين الجانبين، يتساءل مثقفون آخرون عن جدوى وزارة الثقافة ذاتها، مقيّمين إياها كأداة شمولية لا تختلف كثيراً عن وزارة الإعلام (أسّستهما ثورة يوليو كوزارة واحدة تحت اسم «وزارة الإرشاد القومي»). في نظر رافضي مبدأ «وزارة الثقافة»، فإنّ كيانها مجرد وسيلة استبدادية مؤهلة للخضوع لأي سلطة، وظيفتها ـــ الفاشية ـــ أن تحدد للمواطنين «الثقافة الوطنية» المقبولة و«الهوية الرسمية». وبالتالي، فإنّ تفكيك الوزارة ـــ تكتب إيمان مرسال ـــ هو «سعي للتحرّر من تراث الدولة الشمولية الذي بدأ تأسيسه في الخمسينيات وظل فاعلاً حتى الآن». من جانب آخر، يرى المدافعون عن وجودها دوراً هاماً لم يتمثل فقط في رعايتها معارض الكتاب والمهرجانات السينمائية وقصور الثقافة، بل في طبع ملايين النسخ من الكتب عبر مشاريع «مكتبة الأسرة» و«القراءة للجميع» ومؤسسات هيئة الكتاب، وترجمة آلاف الكتب، محافظةً على خط «تنويري»، وموفرة أسعاراً رمزية، لعبت دوراً هاماً في «تثقيف» أجيال متعاقبة لا تتحمل أسعار دور النشر الخاصة. كما أنّ الإخوان، كموقفهم من وزارة الإعلام والصحف القومية، لا ينوون إلغاءها بل الاستفادة منها، ومن ثم قد يدور الصراع (بين الهويتين) على كل عنوان وكل نشاط.
في المسلسل المصري الشهير «أرابيسك» (1994)، يُكلّف الأسطى حسن النعماني (صلاح السعدني) ببناء فيلّا تعبّر عن هوية مصر، ليكتشف الأسطى ـــ معبّراً عن أفكار المؤلف أسامة أنور عكاشة ـــ أنّ المصريين غير متفقين على هويتهم «تسأل واحد يقولك فرعوني، واحد تاني يقولك قبطي، غيره يقولك إحنا بنبص على البحر، بعده يقولك عربي طبعاً». في أحداث المسلسل، تنهار الفيلا إثر زلزال القاهرة الشهير عام 1992. الثورة زلزال أيضاً، لكن مصر لا تشبه الآن أي فيلّا!