في ديوانه الثاني «الصمت يأتي للاعتراف» (1991)، كتب زاهر الغافري (1956): «أنا الذي كنتُ فيما مضى حطاباً/ نمتُ في الغابات/ يقودني عزفُ نايٍ/ انفجر فجأة من لمعان الفأس في يدي». بهذه اللغة القريبة من شعرية الحياة اليومية، والمحتفظة بقدر واضح من التأمل والتروّي، كان الشاعر الُعماني يكتب بياناً شعرياً شخصياً بدأه بخفر في باكورته «أظلاف بيضاء» (1984)، قبل أن ينضج أكثر، ويتقدم «كضوء الشمعة الذي ناضل طويلاً كي يصل»، حاملاً معه قصيدته «كحقيبة تضجّ فيها عاصفةٌ كبيرة»، كما كتب في المجموعة ذاتها.
مقاطع قديمة مثل هذه لا تزال تلمع في تجربة الشاعر العُماني الذي كسر رتابة انتمائه الأصلي بارتحالات متعددة قادته إلى العراق والمغرب وفرنسا والولايات المتحدة الأميركية، وأخيراً إلى السويد، التي استقر فيها منذ سنوات. ارتحالاتٌ تركت أثراً في وعي الشاعر وفي معجمه الشعري وفي خياراته اللغوية، بينما كانت قصيدته تحتكّ أثناء ذلك بفضاءات وسياقات شعرية عديدة، وتفقد أجزاءً غير قابلة للتطوير في هويته المحلية، وتربحُ أجزاءً جديدة قادرة على تغذية نبرته وإيصالها إلى غايات أبعد.
مناسبة هذا التمهيد السريع والمختزلٌ هي صدور مجلد «المجموعات الخمس» (دار نينوى – دمشق) التي تضم – كما هو واضح من العنوان – المجموعات الشعرية التي أصدرها الشاعر بعد باكورته التي استثناها (بدون توضيح السبب) في إصداره الجديد. لعلّ الخفوت هو الصفة الأبرز التي يمكن معاينتها، وهي تنتقل بخفوت مماثل، من مجموعة إلى أخرى، ومن قصيدة إلى أختها، ومن سطر إلى السطر الذي يليه. بضمير الجمع الذي يُكسِب الكتابة مذاقاً نشيدياً، أو بضمير المتكلم المنفرد الذي يكشف وحدة الشاعر وعزلته، لا يسمح صاحب «ظلال بلون المياه» (2006) بأن تعلو ضجة المعاني أكثر من الصوت الخفيض للكلمات التي كُتبت بها. كأن الكلمات تتجاور على السطور وداخل الاستعارات من دون أن يرتطم بعضها ببعض. كأنها تجتمع من أجل خدمة نبرة الشاعر الذي يسترسل في وحشته وغنائه، لكنه في الوقت نفسه يضبط ذلك ويمنعه من الاستطرادات غير الحميدة. هي نبرةٌ بلا ضوضاء تجمع تجربة الغافري مع تجارب عربية أخرى، تجنّب أصحابها الغرق في وحول البلاغة السلبية والتهويم اللغوي. نبرة الغافري أقرب إلى نبرة شعراء مثل نوري الجراح وبسام حجار وأمجد ناصر ووديع سعادة، وأبعد عن تجارب البيئة الخليجية الأولى التي انطلق منها. مفردات «الصمت»، و«الظلال»، و «العزلة»، و«الليل»، التي حضرت في عناوين مجموعاته تبدو مثل صفات جوهرية يمكن الحديث عنها مطولاً وامتداح ترجماتها في قصائده التي يشتغل الشاعر في أحشائها أكثر من اشتغاله على سطحها. حركة الأعماق هي التي تَهَبُ سطح القصيدة هذا الهدوء الذي لا يرسل ذبذبات ناشزة إلى المتلقي. «من مدينة إلى أخرى/ عبر بقاع العالم/ أخوضُ في أنهارٍ خالية من الصداقات»، يقول الغافري في مجموعة «كلما ظهر ملاكٌ في القلعة» (2008). الكلمة الأخيرة هي التي ينتظرها القارئ لكي تُضيء الاستعارة كلها. كلمةٌ سيجد مثيلاتها في مقاطع وسطور أخرى كما هي حالُ كلمة «الصيارفة» في صورة مثل «أنا الكائنُ ذو الأخطاء الكبيرة/ لم أعرف اللعبة قطّ/ على الأرجح/ تنقصني المهارةُ لأدخل/ في قلب العالم/ تحت راية الصيارفة»، وكما هي كلمة «المعجزة» في صورة مثل «لم تقلْ تلك المرأة شيئاً/ الواقفة على الشرفة/ المعجزة في النظر إلى تحت/ وأنا أصعد إليها/ يا إلهي لا تكسر السٌّلم». معاينةُ أثر هذه الكلمات لا تخفي مناخات السكينة والأسى التي تنبعث من هذه الصور التي ربّاها صاحبها تحت سماوات مختلفة، وفي أمكنة متعددة، حيث «كانت الطريق كنزاً تحت أقدامي/ وكل خطوة مني/ تلدُ بركاناً هائلاً من الإشارات». الأسى يعلو (مكتوماً) في تذكّر الماضي وأرض الأسلاف، ومديح المرأة، والمدن، بينما تبدو رحلة الشاعر بلا هدف: «لن تذهبَ إلى أبعد من هذا ولن ترى/ لن ترى إلى أبعد من النافذة/ حتى ذلك النبع/ لن ترى ذلك النبع/ الذي يسعى المرءُ لأن يغرق فيه/ كي يولد ثانيةً/ تريد أن تمتحن المصير على الحافة/ لكنك على الأرجح/ رجلٌ ميتٌ/ في الظلام». الإقامة الهشة على الحافة هي التي تحكم أسفار الشاعر في الأمكنة واللغة. إنها رحلة من أجل الرحلة، بينما الشاعر «ضيف العالم» الذي تنتظره «تلك الإشارة الوحيدة النائمة في منتصف القصيدة».