بين السلطتين الثالثة والرابعة، أي بين الإعلام والقضاء، علاقة جدلية تصل أحياناً إلى حدّ التناقض. خلال مؤتمر صحافي أول من أمس، أطلق وزير العدل اللبناني شكيب قرطباوي وإلى جانبه وزير الإعلام وليد الداعوق، صرخته بحق بعض وسائل الإعلام التي «تسهم في تهشيم صورة القضاء». لا شكّ أنه في الآونة الأخيرة، شكّلت التحقيقات الصحافية مدماكاً لتلك الصرخة، سيما في الصحافة المكتوبة التي استند إليها الإعلام المرئي في إثارة ملفّات تطال قضايا رشى وفساد أحيل فيها ثلاثة قضاة إلى «هيئة التفتيش القضائي».
إلا أنّ حِرص وزير العدل على حرية الإعلام لم يمنعه من طرح تساؤلات عدّة تحاول توجيه الصحافة أو حتى تقويض مهمتها في مراقبة الجسم القضائي وشوائبه.
المحامي في جمعية «مهارات» طوني مخايل يصف لـ«الأخبار» العلاقة بين الصحافة والقضاء بالمتناقضة بسبب اختلاف طبيعة عمل كل منهما. ويشرح مخايل أنّ مهمة الإعلام الأساسية هي نشر المعلومات وإطلاع الناس على الحقائق ومواكبة الملفات القضائية. أما القضاء، فهو يقع في الجهة النقيضة لجهة الحرص على سرية المعلومات. مع ذلك يرى مخايل أنّه لا يمكن أن يلزم القضاء الإعلام بالتكتّم. ويورد الفوارق بين السلطتين والهوة التي تفصلهما في الامتيازات التي تستحصل عليها السلطة القضائية عبر وجود نصوص قانونية تحمي عمل القضاة بخلاف الصحافيين الذين لا يتمتعون بقانون حرية المعلومات. قانون المطبوعات مثلاً يمنع نشر التحقيقات الأولية التي تحصل عند قاضي التحقيق قبل إحالتها إلى المحكمة. الصحافي هنا برأي المحامي، هو مواطن عادي ضعيف، بينما يتمتع القضاء بنصوص قوية تحصّنه وتحميه.
تطرق المؤتمر الذي عقد إلى نقاط عدة منها التجريح الشخصي الذي يطال أحياناً القاضي، وأُطلقت دعوة إلى ترك القاضي يصدر حكمه من دون ضغط يمارس عليه من الصحافة. لكنّ النقطة الأبرز كانت لوم الإعلام على تعميم فكرة أنّ كل السجناء هم أبرياء وصولاً إلى إصدار حتى الحكم مسبقاً في القضية المطروحة. بالنسبة إلى التجريح الشخصي، ترى مصادر صحافية أنّه لا يمكن الفصل بين مسيرة القاضي الشخصية وسلوكه المهني الذي قد يؤثر في الأحكام التي يصدرها. وفي هذا السياق، يرى مخايل أنه يحقّ للصحافة أن تنتقد عمل القضاء والإضاءة على سلوك القاضي المرتبط مباشرة بأداء مهمته خدمةً للملف، داعياً في الوقت عينه الإعلام إلى إرساء توازن بين المصلحة العامة وبين النقد الشخصي والابتعاد عن التشهير. وبالنسبة إلى الضغط النفسي الذي يُمارس على القاضي، فيلفت مخايل إلى أنّ القانون يجرّم هذا العمل لأنه يؤثر في الحكم الذي سيصدر. ومع ذلك، يعتبر المحامي أنّه لا يجب تطويع الإعلام في هذه النقطة بل يجب التصرّف بمسؤولية عالية لدفع الأمور بشكل إيجابي من جهة لفت نظر القاضي بشكل مهني إلى عمله من دون التأثير عليه والحرص على متابعة الملفات منعاً لتمييعها. ودعا مخايل إلى خلق جهاز تفتيشي مستقلّ يراقب عمل القضاة ويحاسبهم.
في حديث لـ«الأخبار»، يلفت وزير العدل شكيب قرطباوي إلى أنّ اللوم الذي وجّهه أمس كان لبعض وسائل الإعلام ولم يعمّم حكمه. واعتبر أن النقد والمراقبة هما من مهام هذه الوسائل التي دعاها إلى أن تنحو منحى إيجابياً وتنظر إلى النصف الملآن من الكأس «للمحافظة على أسس الدولة»، مع إقراره بالشوائب التي تعتري الجسم القضائي، وقد خضع الأخير لعملية تنقية غير مسبوقة خلال السنتين الماضيتين. ودعا إلى الابتعاد عن التناول الشخصي لحياة القضاة، وهذا الأمر تحلّه لجان التفتيش والوزير المعني. وفي ما خصّ تعميم فكرة أن ّكل السجناء أبرياء من خلال التحقيقات الصحافية، فهذا الأمر برأيه يظهر أنّ كل القضاة ظالمون، وهذا مخالف للواقع. إذ بات متاحاً مع الأنظمة الإلكترونية الحديثة متابعة ملف كل سجين والسؤال عنه في حال المماطلة. وعوّل قرطباوي على المؤتمر الذي سيجمع قريباً القضاة وممثلي وسائل الإعلام من أجل تنسيق علاقة شفافة مع الحفاظ على حرية الإعلام «المقدسة» وإرساء توازن بين الحرية وحقوق وواجبات القاضي، والحرص على أن يكون هذا الإعلام مسانداً للقضاء في سبيل سيره في الطريق القويم.