عباس النوريأبدأ بالقول، لا يعتقدن أحد ممن يقرأني الآن أنّني أقول كلاماً يمكن أن يجعلني في اصطفافات معينة سواء لنظام أو معارضة، لكنني ألتقط بعضاً من الإحساس العام في شوارع دمشق وهي تتابع حركة الحب الهائلة والعارمة التي تضج بها شوارع القاهرة. لن أراهن أحداً أن هذا الاحساس العارم لا يخلو منه متر من أرض بلادي (سوريا) شمالاً وجنوباً، شرقاً وغرباً. حتى إنّه يتجاوز الحدود ليسبح في الفضاء الأكثر اتساعاً للعروبة وهي تحمل بكل جدارة وتفرد راية المستقبل دون غيرها. وحدها العروبة صانعة لأيامنا القادمة. العروبة التي تحترم مكوّن الشخصية العربية (الدين)، وتصونه من الانحراف حتى لا يصبح عدواً للإنسانية كما هو بمفاهيم القاعديين والجهاديين وأصحاب الرايات السوداء.
علّمينا يا مصر، فنحن في أكثر الأوقات صعوبة، والوقت يغادرنا، ويزحف بنا نحو الانتحار بعناوين مختلفة. علّمينا كيف نكف عنّا الحروب والدمار بالحب. بالحبّ وحده يمكن أن نملأ الفضاء صراخاً، بالحق وضد أي كان! علّمينا كيف نجعل لكل بيت ولكل عائلة ولكل أسرة حدوداً هي حدود الوطن نفسها. فالوطن هو العائلة، والاسرة هي الوطن.

علّمينا كيف نغلق الابواب على بيتنا ( وطننا) ونحل مشاكل البيت دونما أي تدخّل من جار أو من قريب. علمينا أنّ كل تدخل في مشاكل البيت هو جنوح للمزيد من تعميق تلك المشاكل إن لم يكن لإحداث شرخ أو شروخ تصدع المكان تحت أهله. علّمينا أنّ البيت المؤمن حيث يصلّي، يتصل فوراً بالخالق دون وسيط ودونما حاجة إلى شهادات حسن الأداء في العبادة من هذا الجار أو ذاك القريب. علّمينا أنّنا حين نتفق داخل البيت بعد خلاف، سنكون أكثر قوة وثقة وجرأة في فتح أبوابنا مشرعة على مصاريعها ونحن أقوياء أمام العالم كلّه.
علّمينا. يا صاحبة التسعين مليون (أستاذ)، فنحن يدركنا الوقت وقد دخلنا الامتحان ونحن في قلبه ومعمعته! ونحن نعضّ أصابعنا خجلاً وندماً مما قتلناه في أنفسنا بفعل الشعارات ومما ذبحناه من أهلنا بفعل التكفير، ومما دمرناه من بيوت ذهب أهلها وبقيت قيمهم وقيمتهم وذكراهم، ومما أحرقناه من مدن وقرى حتى لم يعد ينفع بعد حرقها أن تدل على عناوينها هوية أو خانة ميلاد، ومما ما زلنا نختلف عليه ونتذابح ونقتل أولادنا وآباءنا ونطلق النار على أيامنا القادمة بحمل السلاح وتوجيهه إلى أنفسنا بدل إطلاق المحبة وحبّ الوطن على رؤوس الأشهاد. علمينا كيف نطلق الحب من البنادق. علّمينا أنّ للسلم ثمناً وحيداً أمام الدم الذي نريقه في بيوتنا وشوارعنا وفي كل شبر من أوطاننا هو الحب. علّمينا أنّ للحق صوتاً خافتاً وهادئاً وحازماً في آن واحد، وأنّه حين يعلو، فلا شيء يعلو عليه. علّمينا أن نتصافح مع كل اختلاف ونبتسم بثقة لكلّ مشروع قرار يخص أيامنا المقبلة وإن كان مختلفاً عليه، وأنّ جموعنا واجتماعنا لا بد له من راية واحدة قبل كل راية... هي راية الوطن. علّمينا كيف نحمل الراية بحبّ لا يخاف ممن يحملها معنا لأنّه منا وفينا. علّمينا أنّ العروبة ليست تراثاً لم يتجاوز صانعي الغترات والشماخات والشحاطات، بل هي أفق واسع للانتماء إلى المستقبل وهي وحدها بوابتنا على العالم.
علّمينا كيف أنّ الأنظمة لا تحميها الشعارات البراقة وأنّ الأضاحي هي في صناديق الاقتراع المكفولة والكافلة لحكم الشعب ولرأي الشعب وليس لمن يتحكم ويحكم باسمه. علّمينا كيف يجب أن نترك أصحاب صناديق الاقتراع ومراقبيها وحدهم أمام كاميرات العالم، فصوت الشعب هو وحده الاقتراع النهائي.
علّمينا كيف نقرأ الواقع بجرأة. علمينا كيف نواجه طلاسم الاستسلام لمستقبل مجهول ونحن ننتظر من سيغلب ومن سيحصد رؤوساً أكثر ومن سيملك بنوكاً أكثر اتساعاً لدمنا. علّمينا كيف نحقن العقل بالحب كي نحقن الدماء. علمينا الارادة. علّمينا الحياة. علّمينا كيف يمكن أن نترك لأولادنا إرثاً خالياً من الخوف والاختباء وراء نفاق الشعارات. علمينا نظافة الايمان ونظافة الارادة. يا أمّ الدنيا، علّمينا الحب، فليس هناك حبّ مثل حب الام يشابه القداسة. علّمينا، فما زلنا في معمعة الامتحان لا نريد غشاً ولا رسوباً بل نجاحاً وقدماً في الدفاع عن النجاح. علّمينا كيف نتعب، كيف نقرأ، كيف نفكر، كيف نسامح، وكيف نكتشف عنصر الايمان بالله مكوناً قادراً على سحق كل عنف من أي جهة أتى. علّمينا أن نعترف بشغبنا. بجاهليتنا، وبقلة حيلتنا مهما تشدقنا بالعكس، وبفقر رؤانا مهما ملأنا الدنيا صراخاً.
علّمينا كيف أنّ الرحمة ليست اشتقاقاً لغوياً بلاغياً لكلام الله عز وجلّ، بل هي في عمق الانسانية ذاتها مكوّن أساسي لحضارتنا ومستقبلنا ومستقبل أجيالنا. علمينا أن نصدع دون خوف، وأن نصدح دون وجل، وأن نحب دون خجل. يا قاهرة الشعارات. يا صانعة الانتصارات، علّمينا معنى قوة الحب للبلد. علّمينا أن نطلق النار فقط على الخوف، وعلّمينا أن نطلق الحب فقط على الوطن.
دمشق ــ تموز (يوليو) ٢٠١٣