الحرب الأهلية اللبنانية (1975) التي يكاد يمضي عليها أربعة عقود، مثّلت حداً فاصلاً بين عصرين، وأحدثت شرخاً عميقاً بين جيلين، هي محتوى سُباعية جورج الراسي «ذاكرة بيروت الثقافية» التي تتناول مختلف أوجه الآداب والفنون التي زخرت بها بيروت منذ ما قبل الحرب، وتستعيد صفحات مشرقة من تاريخ المدينة.
فكرة إحياء تلك المرحلة كانت كامنة في ذهن الراسي منذ أمدٍ طويل. يتذكّر الكاتب: «كانت بيروت السبعينيات حافلة بكلّ أشكال الإبداع اللبناني والعربي التي دفنتها الأحداث وراء غلاف سميك من الإهمال والنسيان. أما الحافز المباشر لإعداد هذه السلسلة، فكان من وحي الصديقة العزيزة الدكتورة ليلى بركات خلال إشرافها على نشاطات «بيروت عاصمة عالمية للكتاب» عام 2009». إصدار كتاب واحد لم يف بالغرض، إذْ اكتشف الراسي أنه لا بدّ من إعطاء كل ميدان فني أو أدبي حقه، علماً أنّه كان يتابع هذه النشاطات يوماً بيوم خلال النصف الأول من السبعينيات من خلال مقالات أسبوعية نُشرت في بعض الصحف والمجلات وبخاصة مجلة «البلاغ».
«إنّها ذاكرة جيل قصفته الحرب» يقول الراسي، مضيفاً «لن يستعيد توازنه إذا لم يستعد ذاكرته. فإذا لم تنظر إلى الوراء فلن ترى شيئاً أمامك... هناك فجوة في ذاكرة الجيل الجديد لو قسناها بالأيام والسنين لقلت إنها ربما عادلت ثلث قرن، وقت ضائع لا بد من استعادته. لو استفاد الطالب أو المثقف العادي من هذه الاستعادة، أكون قد حققت غرضي». لماذا بيروت بالتحديد؟ يجيب الراسي: «بيروت ليست حدوداً جغرافية. بيروت الثقافية هي أيضاً بيروت العربية التي لا يمكن فصل ثقافتها عن عروبتها. عندما كانت بيروت بخير، كانت الثقافة العربية برمّتها بخير. كأنها كانت الرئة الوحيدة التي يتنفس بها الإبداع العربي. وعندما أصيبت تلك الرئة بالعطب، تعطّل كل شيء، وكاد يتوقف كل عطاء فكري وثقافي».
السلسلة تتألف من 7 أجزاء. الكتاب الأول يحمل عنوان «وجهة نظر»، وهو عبارة عن «يوميات بالأبيض والأسود» وسجل شبه يومي للأنشطة الفنية والفكرية والأحداث الثقافية والسياسية التي حفل بها النصف الأول من السبعينيات، مع صور وثائقية تحمل بصمات تلك المرحلة الخصبة. أما الكتاب الثاني «أدبيات»، فهو رحلة في عالم السبعينيات من خلال أهم الإصدارات الأدبية في تلك المرحلة، والصراعات الفكرية التي احتدمت بها الساحة حينها والمشاحنات الأدبية الراقية. ويشتمل هذا الكتاب على ملحق يسجّل وقائع أول «ملتقى للشعر الحديث» احتضنته بيروت عام 1972، وضمّ معظم المبدعين من الشعراء العرب. أما الكتاب الثالث «حوارات أدبية»، فيكمل الكتاب السابق من حيث أنه سجلٌّ للأدب العربي في تلك اللحظة التاريخية من خلال لقاءات معمّقة مع نحو 50 مبدعاً في مختلف الأنواع الأدبية من شعر ورواية وقصة ونقد. بينما يسجّل الكتاب الرابع «محطات على طريق السينما اللبنانية والعربية» البدايات الأولى لانطلاق السينما اللبنانية ونشوء الفن السينمائي العربي، ويشتمل على أحاديث مع مخرجين ونقاد طليعيين أمثال: صلاح أبو سيف، وتوفيق صالح، ومحسنة توفيق وسمير فريد... ويرصد تطور السينما اللبنانية الحديثة من خلال بعض أعمال المخرجين الشباب آنذاك أمثال: برهان علوية ومارون بغدادي وجوسلين صعب وغيرهم...
المسرح هو محور الكتاب الخامس بعنوان «المسرح اللبناني في عصره الذهبي 1970 - 1975». يتضح من خلاله أنّ الأعمال الأبرز التي يعاد تقديمها اليوم هي نفسها التي قُدِّمت قبل 40 عاماً على يد حفنة من المخرجين الذين ما زالوا يمثلون التجارب الأكثر نضجاً التي عرفها المسرح اللبناني في تاريخه، من أمثال روجيه عساف، وريمون جبارة، وأنطوان ملتقى، ونضال الأشقر، وجلال خوري، ويعقوب شدراوي وغيرهم من جيل المخضرمين.
الكتاب السادس «وتر يبحث عن أصالة: ملامح النهضة الموسيقية الحديثة في لبنان والوطن العربي» يضمّ عدداً من الحوارات المعمّقة مع موسيقيين من بينهم منير بشير، ووليد غلمية. ويشير الكاتب الى أنّ «بدايات منير بشير كانت في مكتب متواضع تحت الأرض في منطقة الحازمية وكانت أولى حفلاته العائلية تُقام في «روف» متواضع كنت أسكنه في شارع بدارو مطلع السبعينيات».
مسك ختام هذه السُباعية يحمل عنوان «ريشة في مهب الريح: أنطولوجيا الفن التشكيلي اللبناني من البدايات حتى اليوم»، وهو يتفرّد بأنّه أول أنطولوجيا من هذا النوع ترصد نشوء الفن التشكيلي في لبنان منذ بداياته الأولى في أواخر القرن السابع عشر وحتى بدايات القرن الواحد والعشرين. لا يقتصر هذا العمل على استعادة حقبة سابقة وإنما هو إحاطة بتطور هذا الفن الذي تعاقبت عليه أجيال كثيرة ابتداءً من المؤسسين أمثال: داوود وجورج قرم، وخليل صليبي، وحبيب سرور، وفيليب موراني، وجبران خليل جبران الذين شكّلوا «عصبة الخمسة» خلال بدايات القرن الماضي. ثم لحق بهم «رعيل النهضة الأولى»، وقد ضمّ مبدعين طليعيين أمثال: مصطفى فروخ، وعمر الأنسي، وقيصر الجميل، وصليبا الدويهي، ورشيد وهبي، ويوسف الحويك والبصابصة. جاء بعد ذلك «رعيل النهضة الثانية» وقد برزت من بين صفوفه أسماء كثيرة أمثال: عارف الريس، ورفيق شرف، وبول غيراغوسيان، وشفيق عبود، وجان خليفة، وحليم جرداق، ووجيه نحلة، وأمين الباشا وغيرهم. وجرى تخصيص فصل كامل للفن التشكيلي النسائي، وهذه ظاهرة رأى الراسي أنّها تستحق التوقف عندها، شارحاً: «في بدايات الحركة التشكيلية وحتى أواخر القرن المنصرم، كان عدد الرسامات محدوداً جدا،ً وكانت المخضرمات بينهن لا يتجاوزن العشر، وفي طليعتهن الفنانة سلوى روضة شقير...أما اليوم، فلا تكاد عائلة واحدة تخلو من فنانة تشكيلية». من خلال مجموعة الكتب السبعة هذه، أراد الكاتب إيصال فكرتين أساسيتين: الأولى هي أهمية الذاكرة، وما زخرت به الآداب والفنون العربية من إبداعات عبر العاصمة اللبنانية. والفكرة الثانية أننا ما زلنا «مكانك راوح منذ نحو أربعين عاماً».
أخيراً، يقول جورج الراسي لـ «الأخبار» إنّ هذا العمل سمح له بأن يتوصّل الى الخلاصة الآتية: «إنّ إبداعات الفن والأدب هي الخميرة الحقيقية لوحدة الروح العربية التي تتجاوز كل التقسيمات والخلافات والصراعات السياسية. الثقافة توحد ما فرقته السياسة. ولو ترك الأمر لأهل الفن والأدب، لتوحّدت الأمة برمشة عين».



مصادر ومراجع

في ما يتعلق بالمصادر التي اعتمد عليها جورج الراسي في عمله الضخم، فقد أشار إلى أنّه لجأ إلى المقالات التي كتبها حينها متابعاً مختلف النشاطات الثقافية والفنية في الساحة اللبنانية، إضافة إلى المراجع المعتادة من صحف ومجلات وكتب ووثائق، كما شكّلت صداقاته مع عدد كبير من أولئك المبدعين مصدراً أساسياً لعمله.