باريس | مع فرقة مسرح الـ«كوميدي فرانسيز»، قدّم المخرج الكويتي سليمان البسام نصّ «طقوس الإشارات والتحولات» على خشبة الـ«كوميدي فرانسيز» في باريس من 18 أيار (مايو) حتى اليوم الخميس. يشكّل تقديم نصّ سعد الله ونوس (الصورة) حدثاً تاريخياً، فهي المرة الأولى التي تُعرَض فيها مسرحية عربية (لكن ليس باللغة العربية) على هذا الركح العريق الذي يعدّ أحد أهم معالم المسرح الفرنسي (عرضت «مهاجر بريسبان» لجورج شحادة عام 1967).
تُرجِم النص إلى الفرنسية ببراعة من قبل رانيا سمارة وحرّرته دار «آكت سود» عام 1996، بعد سنة على تسلم فاروق مردم بيك إدارة منشورات «سندباد» التابعة للدار فيما كان ونوس الذي يكافح مرض السرطان، يعلم أنّه سيموت. وفي مناسبة دخول هذه المسرحية سجل الـ«كوميدي فرانسيز»، أُعيد تحريرها مع بعض التنقيحات من قبل المترجمة.
تدور الأحداث في النصف الثاني من القرن الـ19 في دمشق. شعر المفتي بأنّ سلطته تنهار، فأوقف «نقيب الأشراف» عبد الله، متلبساً وهو يقيم علاقة مع عشيقته الغانية وردة. لكنّه حاك هذه المؤامرة للتخلص من عدوه، قائد الدرك عزة الذي يزج عبد الله ووردة في السجن. لكن خلال الليل، يستبدل المفتي وردة بمؤمنة، زوجة عبد الله، مما يسمح له بحبس قائد الدرك الذي سيُتّهم بتوقيف زوجٍ شرعي بدون وجه حق. تقبل مؤمنة لكن بشرطٍ: أن تتطلّق، وتقرر لاحقاً أن تصبح غانية (مومساً) فتسمّي نفسها ألماسة وتهز بقرارها دمشق.
«زوجة أم غانية؟» هذا هو السؤال الذي يحيّر مؤمنة (جولي سيكار) قبل أن تتحمل مسؤولية اختيارها تحطيم القيود الثقافية والاجتماعية التي دفعتها إلى التردد بين ما هو شرعي وما هو قانوني، وتسير في طريق الرغبة، فـ«هي تريد تحرير جسمها» كما تقول للمفتي (تييري هانسيس). تريد فكّ القيود التي تنهشها. تريد أن يصبح جسدها حراً. تريد أن تلاقي جسدها، تريد الوصول إلى الـ«أنا».
تُطرح عندئذٍ أسئلة عدّة: الحق المشروع بالمتعة، صراع ضد القانون المدني والديني والاجتماعي، و«الحرام» الذي يتصارع مع «الحلال». تتقاتل الشخصيات ضد المحرّمات وثقل المجموعة يسحق الفرد: كيف نتجرأ ونقول كلمة «أنا» في مجتمع المحرّمات؟ يتأتى عن ذلك صراع داخلي ينهش الشخصيات. هي تعاني لأنّ الـ«أنا» (ستصرخها جولي سيكار على الخشبة) لا تشبه مظهرها الخارجي. تريد مؤمنة أن تصبح شفافة كالزجاج، ويريد «أفصح» المثلي الجنس أن يصبح شفافاً كالمياه. كلاهما يود أن يصبح «كاملاً». يرغبان في أن يتطابق مظهرهما مع حقيقتهما. كلاهما يعاني من استبداد رجولة عنيفة وغير مُعرَّفة. يقول عبدو في نهاية المسرحية إنّه يريد «أن يعيد إلى الرجولة مكانتها». هذا ما سيدفعه إلى إقناع المفتي بإصدار فتواه المهلكة التي تدين «الدعارة، والفسق» وكلّ أشكال المتعة. يمتثل المفتي محاولاً السيطرة على شغفه بألماسة لكن بلا جدوى. النظام الاجتماعي والسياسي الاستبدادي والذكوري لا يرحم. بالتالي لن تكون نهاية التمرد سوى الموت (ألماسة، أفصح)، أو الجنون (عزّة) أو الروحانية المرضية والمدمرة (برع دوني بوداليدس في دور عبد الله المهووس بالله إلى درجة محو فرديته).
ينهار كل شيء عندما تنهار مقاومة المفتي للحب الجسدي. تتحد السلطة بالرغبة من خلال العاب جنسية شهوانية محورها السيطرة: بدءاً من المشهد الافتتاحي، تُدنَّس العمامة، رمز السلطة، بوضعها على رأس غانية «نقيب الأشراف». تتداخل السياسة (السلطة) بالجنس (المتعة) وتنتجان شكل العلاقات الاجتماعية من خلال امرأة قوية بفعل تحررها من فرديتها، ومساءلتها النظام، وخروجها عن القاعدة. ثم يُمحى كل شيء كأنه وهم، كالحبّ. تصبح ألماسة مجرد حكاية، تتعدى الموت، وتصبح الحقيقة السياسية مجرد كذبة، كذبة تلاحق قائد الدرك عزّة وقد وُضِع في السجن فيما كُتبَ النص في ظل عهد حافظ الأسد الديكتاتوري. ويتساءل عزّة: كيف تختفي الحقيقة في يوم واحد؟ كيف أصبحت الحقيقة كذبة والكذبة حقيقة؟ منذ البداية، كان المفتي يعرف الاجابة: «تكمن الحقيقة في الإجماع»!