في ديوانه «الحب، حسب التقويم السومري» (دار الجمل)، يستأنف عبد العظيم فنجان ما كان قد كتبه في ديوانه السابق «الحب، حسب التقويم البغدادي». الفرق بين التقويمين لناحية الفجوة الزمنية، لا يسري على اللغة والحساسية التي أنجز بها الشاعر العراقي الديوانين، وربما كان الثاني جاهزاً وتمّ تأجيله لكي لا يتضخّم حجم الديوان الأول. هكذا، نجد أنفسنا مجدداً أمام مدائح متواصلة لامرأة تختصر الأنوثة، وتتحول إلى مُخاطبٍ كلّي مصنوع من ترجمات العشق والشعر معاً. الحب يصبح موضوعاً للكتابة، وليس حالة وجدانية وعاطفية محددة. العاطفة نفسها متأنية هنا ومكتوبة بنبرة تمزج بين السيولة والجفاف. نبرة تذهب إلى التاريخ والأسطورة، وتعود إلى الحاضر، وتجد في الذهاب والعودة ما يُعينها على الاستمرار والتدفق، بينما الشاعر يبدو أشبه برسول لا يتوقف عن رفع الرسائل إلى المعشوقة الكلية الجمال والحضور. إنها «فكرة عن امرأة، لا امرأة بعينها»، وهي «امرأة الطوفان» التي حين أطلق الربان حمامته الأخيرة «لم تجد مكاناً تحطُّ عليه سوى كتفيها»، وهي التي «رنّ الزمنُ/ وارتعش خلخالُ العالم، عندما التفتتْ».
توصيفاتٌ إعجازية مثل هذه حاضرة في كل القصائد، إلا أنّ ذلك لا يعني أنّ الحبّ يحدث بسذاجة وميوعة. هناك خطرٌ دائم على شعر الحب، لكن ما ينقذه أنه ليس مكتوباً بدواعي العاطفة العارية. يحوّل صاحب «أفكر مثل شجرة» الحب إلى حالة وجودية كبرى تُفقدُ المرأة المُخاطبة هويتها التقليدية، ويحمِّلها أدواراً ووظائف تتجاوز حضورها حبيبةً أو عشيقةً أو زوجة. إنها سببٌ للكتابة، ومساحةٌ للتمرّن على خلق الصور والاستعارات. استحالة تحديد هويتها وملامحها يجعلها امرأة مفردة بصيغة الجمع، وهو ما يسهِّل نثر حضورها الشاسع على نصوص الكتاب، ويكثّر زوايا النظر إليها وإعادة وصفها ومدحها، بينما يحاول الشاعر في الوقت نفسه أن يتجنّب الوقوع في الرخاوة والسطحية. لا ينجو الديوان من تكرار بعض السياقات والمناخات، وخصوصاً أن الشاعر مطالبٌ بالدوران حول الموضوع ذاته، والحفر في داخله وجواره القريب، كذلك فإن القارئ يضجر أحياناً بسبب المديح المتكرر لامرأة لن يصادفها في الشارع أو في المقهى أو في الوظيفة. إنها مصنوعة من الكلمات تقريباً، ولا حضور لها إلا في مخيلة الشاعر وفي قدرة معجمه على الإحاطة بتصوراتها عنها، ولكن هذه المخيلة تقترح علينا أن نقبل بهذه المرأة – المعجزة، وأن نصدق الشاعر حين يقول: «أنا شعبُكِ وأنا بلادكِ»، وحين يقول: «أتناولكِ بالخيال لأنك حقيقية»، وأنها «عشتار» وأنه بلاد «سومر» كلها.
العودة إلى الأساطير السومرية وأساطير الرافدين، تمنح القصائد تنويعاً ضرورياً في مكونات المدائح، ولكن مكانة المرأة لا تتغير. صحيحٌ أنه يكتب نصين أو ثلاثة على لسانها، ولكن لكي تترجم ما يمكن أن يقوله هو. هكذا نقرأ مدائح مقلوبة تنبعث منها مذاقات نشيد الأناشيد: «كل امرأة مسّها الشعاع سقط قلبها بين يديها، وركضت تسأل عن أخباره الشطوط والأعشاب والبراري. تفرّق الناس وما تفرّق عطرُه. ضاعوا في الأسواق، وضعتُ في جماله. له ألفُّ ثديي هذا بورق التفاح، وأطلق الآخرَ عصفوراً يحطُّ على كتفه». بالنسبة إليها: «الأعمى وحده يستطيع أن يراني»، وبالنسبة إليه: «ابتكرتكِ على أمل أن أضع كل خبرتي في مشروع تحطيمكِ لكنني أخفقتْ». هكذا، يتواصل نص الحب الموزع على ثلاثة أجزاء، وعلى عناوين منفصلة لا توقف تدفّقه، ويواصل الشاعر صناعة أيقونته التي تقوّله مبالغاتٍ كثيرة تُسهم في التنامي الدرامي والغنائي واللغوي للنص، ولكن الشاعر يكسر تلك المبالغات بصورٍ أقل تحليقاً وخيالاً، ولا يجد حرجاً في النظر إلى حصيلة ذلك على أنه «وصفةٌ» لكتابة قصيدة نثر متفلتة من قيودها، وهو ما يمنح اللغة بعض التواضع، ويُكسب الإيقاع قليلاً من التروّي، فنقرأ سطوراً مثل: «خفتُ من جمالكِ لأنه كان جميلاً»، حيث المرأة تبعثره «كما يفعل زورقٌ بحزمة أمواج، وكما يفعل خيطٌ رفيع بروح شمعة»، ولأنها «عاصفةٌ تخجلُ أن توقظ الشجرة».
بهذه الصور التي تلمع بطريقة مختلفة، تقترب اللغة المحلّقة من الأرض، ويتجوّف المناخ الأسطوري والإعجازي بشذراتِ من التواضع، إلا أن النص نفسه يظل حصيلة اللغة، وليس الحياة العادية التي تحدث للجميع. الملاحظة التي تبدو سلبية للوهلة الأولى، قد تكون لمصلحة الديوان الذي يقدم الحب كاقتراح عاجل في زمن القتل والأخبار العاجلة. ألمْ يقل الشاعر في الجزء الأول من هذا الديوان: «لا أريد أن تحبّيني وأنا محشوٌّ بالقتلى/ أخاف أن تحملي مني وحشاً».