هذا العام، جاء «آرت بازل» الـ 44 الذي يقام عادة في منتصف حزيران (يونيو) في مدينة بازل في سويسرا، ضعف حجمه المألوف. جرت تعديلات معمارية بديعة في المبنى الرئيس ومجموعة المباني الملحقة به وفي الميدان الذي يضم أرض المعارض التي يقام فيها سنوياً هذا السوق الأكبر والأهم للفنون المعاصرة. يبرر هذا التوسع المحلي توسعاً أكبر عابراً للقارات، حيث افتُتح فرع آخر لـ«آرت بازل» في هونغ كونغ قبل شهرين على غرار فرع السوق نفسه الذي يقام في ميامي في أميركا منذ ثلاث سنوات.
كان لهذا الفتح الفني في آسيا آثاره الواضحة على المنظر العام للمعرض. الغاليريهات التي شاركت في الحدث وصل عددها هذا العام إلى 340 من 39 بلداً من القارات الخمس، وطُعِّمت ببعض أشهر الغاليريهات الآسيوية، وخصوصاً من اليابان والصين وكوريا بأعمالها الحديثة والمعاصرة التي تظل تحمل بصمة الثقافة الآسيوية وإن تماهت مع النتاجات الفنية الغربية.
هذا الحضور الآسيوي قوي إلى درجة أنّ المشروع الفني الذي أقيم في الساحة الخارجية لأرض المعارض، أي قبل الدخول إلى مباني صالات العرض، نفذه الفنان الياباني تاداشي كاواماتا وهو عبارة عن 18 كوخاً خشبياً مستوحاة من المباني العشوائية والأحياء الفقيرة في أميركا اللاتينية. هذا العمل شِبه التفاعلي، إذ تجلس فيه كاستراحة، وهو نموذج للأعمال التي نستخلص منها درساً جوهرياً في فلسفة الفن، ألا وهو أنّ الأعمال الفنية قد تتغيّر معانيها باختلاف الأجواء أو الأماكن التي تعرض فيها. لو عُرضت هذه الأكواخ في حي عشوائي في بلد أفريقي أو أميركي ـــ لاتيني، لفقدت فوراً مغزاها الفني والجمالي الذي يمكن أن تراه عينُ ساكنِ المدينة الأوروبية المتحضرة.
بشكل أكثر كثافة من أي عام مضى، حضرت الفنانة اليابانية المقيمة في برلين شيهارو شيوتا (1972)، بخيوطها السوداء التي تنسج منها في فراغ العرض المتاح ما يشبه بيت عنكبوت هائلاً ومتداخل الأنسجة والطبقات وبداخله مفردات كالبيانو أو المقاعد أو درجات السلم. هي المفردات ذاتها التي شكلت كوابيس طفولتها بعدما رأت بيت الجيران يحترق حتى الرماد. كذلك، يبرز الصيني الشاب ليو واي (19672) بأربع كتل ضخمة تصوّر مدناً عصرية وناطحات سحاب تنذر بكارثة على وشك الوقوع. وحين نقترب أكثر لنلمس بأعيننا الخامة التي صنع الفنان منها مدينته، نجدها تلاً هائلاً من الكتب المضغوطة في إحالة إلى هذا المعنى الغامض أو الملتبس، بين مدن الواقع الآيلة إلى السقوط ومدن المعرفة الخالدة. ثمة عشرات الوجوه الجديدة على هذا السوق، وفنانون آسيويون تعود أعمال بعضهم إلى خمسينيات القرن العشرين. وفي المقابل، هناك مئات من الفنانين الغربيين الذين غطّت أعمالهم مساحة أكثر من 100 عام، منذ التجارب الأولى في بدايات القرن وحتى النتاج المعاصر الذي لم تمر أشهر على تاريخ إنتاجه. وجوه عربية مرّت أيضاً من هنا، منها الفنان المصري حسن خان بفيديو «طموح أعمى» المهموم فيه بالقاهرة، وكذلك اللبناني أكرم زعتري بـ«كمال الأجسام» الذي يجمع بين الفوتوغرافيا والرسم. أما الفرنسية ـــ الأميركية الراحلة لويز بورجوا (1911 ـــ 2010)، أكثر الوجوه الفنية التي بَصَمت القرن العشرين بأعمالها المتنوعة المفاهيم والوسائط، فحضرت في أكثر من غاليري في هذا السوق الكبير. رأينا لها أعمالاً لم نشاهدها من قبل كأنها ما زالت تعيش وتعمل في الخفاء لتفاجئنا. غير أنّ هذا متوقع من فنانة ظلت تعمل حتى آخر أيامها. حين لم تعد تحتمل يدُها التعامل مع المواد الصلبة، وجدت وسيطاً مناسباً حققت فيه فتحاً فنياً جديداً، ألا وهو خياطة العرائس القماشية والاشتغال عليها تعبيرياً في مواضيع تتقاطع مع فكرة العجز التي تستدعي الحرب وبتر الأطراف. كما أنها لامست العلاقة بين الرجل والمرأة ومناطق الالتباس النوعي بينهما. من هذه الأعمال القماشية، نرى عملاً مركباً صغير الحجم، إلى جانب أعمال أخرى ضخمة ذات وسائط أخرى من مراحل فنية سابقة. لن نستطيع المرور على أعمال ألف فنان في هذه المساحة المحدودة. لكن ربما كان ذكرنا للويز بورجوا نوعاً من المرور على رحلة تطوّر الفن في القرن العشرين من الحديث الى المعاصر، وهو ما نراه كل عام في هذا الحدث الضخم الذي ما فتئ يزداد ضخامة. فنانون حضروا بأعمالهم هنا مثلما حضروا بأعمال مشابهة في «بينالي البندقية» المقام حالياً، فهل ثمة فارق في استقبالنا لهذه الأعمال بين الاثنين؟ الفارق كبير بلا شك، أو ربما حقيقة أنّ الأجواء والأماكن المختلفة تغيّر معاني الأشياء فتزيد أو تنتقص من قيمتها. الأكيد أنّ الفن، كما الحياة، هو دائماً في مكان آخر.