الدار البيضاء | أحد روّاد الفن المغربي المعاصر انطفأ مساء الأربعاء عن عمر ناهز الثامنة والسبعين في الدار البيضاء. حين عاد محمد شبعة (1935 ـ 2013) إلى المغرب عام 1965، محمّلاً بدبلوم من أكاديمية الفنون الجميلة في روما، كان متشبعاً بآليات الحداثة التشكيلية. لكنه عاد إلى بلد، لم يخرج بعد من براثن الاستعمار، ومعه نظرة دونية راكمها المعمر الفرنسي تجاه المغاربة. نظرة قوامها أنّ المغرب ينتج فناً بدائياً، أطلقوا عليه تسمية الفن الفطري. شبعة، المؤمن حينها بضرورة التغيير، كان إلى جانب فنانين قلّة أمام الامتحان العسير الذي فرض نفسه لحظتها: خلق مشهد تشكيلي مغربي حديث يقوض كلّ النظريات الاستعمارية التي حاصرت حينها التشكيل المغربي. هكذا، انبرى إلى جانب فريد بلكاهية، ومحمد مليحي، وأحمد الشرقاوي، والجيلالي غرباوي في خلق هذا المشهد الفني المغاير، وتطبيق كل ما راكمه من معرفة أكاديمية في المجال.

شبعة خريج المعهد الوطني للفنون الجميلة (1955) الذي درس في أكاديمية الفنون الجميلة في روما من 1955 حتى 1964، تنقل لسنوات في أوروبا باحثاً عن مادته، ولم يكن ليركن إلى توجهات ساندت فنانين دعمهم الاستعمار لترسيخ فكرة التفوق الغربي.
اختبر شبعة كل الاتجاهات الفنية المعاصرة. في بداياته، تأثر بكاندينسكي وبيكاسو، قبل أن ينتقل إلى التجريد: أحبّ في الفنان الروسي «احتمالات التعبير التي يقترحها الفنّ التجريدي» وفي الفنان الإسباني «تقديم جمالية جديدة ومضامين جديدة ذات صلة بالتزامات أخلاقية واجتماعية». تعمق في البحث عن الخط والمحتوى والشكل، وأراد أن ينطلق من المحلي ليصل إلى الكوني.
التحق شبعة بـ«أنفاس». كانت المجلة الشابة حينها تراهن أيضاً على الخروج من الاستعمار، وخلق جسر عبور بين اللغات والأصناف الإبداعية في مغرب الاستقلال. هكذا تنازل عبد اللطيف اللعبي لشبعة وبلكاهية ومليحي ورفاقهم من التشكيليين عن الحق في خلق هوية بصرية للمجلة. ليس هذا فقط، بل قدّموا تصوراتهم وأفكارهم حول أفق جديد للفن التشكيلي المغربي. هكذا، كتب شبعة العديد من المقالات التي قارب فيها تصوّره إلى الفن المغربي المعاصر.
حين عاد شبعة إلى تجربة «أنفاس» الفنية في حوار مع الباحثة المغربية كنزة الصفريوي نشر في كتابها «أنفاس: 1966 ــ 1973»، قال إنّ هذه المنجزات كانت «إبداعات مواقف». لم تخل حياة شبعة من مواقف. عند عودته من روما إلى المغرب عام 1965، انطلق في التدريس الأكاديمي في معهد الفنون الجميلة في الدار البيضاء، ثم صار مديراً للمعهد الوطني للفنون الجميلة في تطوان، ومدرساً في المدرسة الوطنية للهندسة المعمارية في الرباط، ولم يوقفه عن التدريس إلا المرض.
أسّس مع مجايليه «مجموعة الدار البيضاء» التي تولّت مصارعة التوجه الفطري والبدائي في الفن المغربي. خرجت المجموعة بأرضية فكرية واضحة، لكنها توجّهت إلى العموم. كانت الفكرة هي الاقتراب من الشعب وتغيير نظرته إلى الفن. هكذا نظمت معارض مختلفة في مدن مغربية، أبرزها معرض كبير في الساحة التاريخية لجامع الفنا في مراكش عام 1969. كان المعرض بياناً قوياً لفكرة طالما دافع عنها شبعة ورفاقه، وهي خلق فن محلي مرتبط بالشعب، يقرب منه الحداثة الفنية.
عن تداعيات رحيل شبعة، قال زميله فريد بلكاهية الذي يقعده المرض، إنّ الساحة الفنية المغربية «فقدت واحداً من أسمائها الرائدة التي حجزت مكانها في الذاكرة الفنية الوطنية». «اتحاد كتاب المغرب» الذي يعتبر شبعة عضواً فيه منذ عام 1968، قدم تعازيه لأسرته في بيان جاء فيه أنّ مسار الراحل تميز «برؤيته الجديدة للفن والثقافة والمجتمع، وبإيمانه القوي وحرصه على ضرورة الفن في حياة الإنسان، ووظيفته في التربية والتغيير. كما عرف بدفاعه المستميت عن الفن المغربي، سواء في علاقته بطلابه، أو في مخاطبته للناس عبر تنظيم معارض في ساحات عامة». بينما أكد الناقد الفني عزيز الداكي أنّ شبعة «الذي أصدر كتاب «الوعي البصري»، كان يؤمن بضرورة أن يحضر الفن في الفضاء العمومي».
هذا الإيمان سار في طريقه شبعة إلى آخر رمق، محاضراً، ومدرساً في جامعات ومعاهد وكليات داخل المغرب وخارجه. لم يكن يجد حرجاً في تدريس أبجديات الفن لطلاب يتلمّسون خطواتهم الأولى في معرفة الفن، في بلد يحمل الكثير من العداء للفنون المعاصرة، وتظل نخبته الفنية في جزء كبير منها بعيدة عن واقع البلد. فتح شبعة ورفاقه الكثير من الفجوات في هذا الحائط، ما دفع إلى تأسيس حركة فنية مغربية، لا تتوقف الآن عن إنجاب أسماء جديدة تحقق رؤية محمد شبعة، و«مجموعة الدار البيضاء» للفنّ.