قبل الخوض في آخر أعمال فضل شاكر، من الضروري تسجيل أنّه لا ينبغي التعامل مع الأخير كفنان معتزل أو «تائب» تحت أي ظرف. لا عيب في الاعتزال أو «التوبة»، وقد حدث أن اعتزل كثيرون الفن لأسباب دينية وعقائدية، وتفرّغوا لعبادة الله ومساعدة البشر. من هؤلاء مثلاً ربيع الخولي الذي تحوّل إلى الترتيل الديني وارتدى ثياب الراهب، وغاب تماماً عن الشاشات الفنية، وبات يطلّ حصراً على الشاشات الدينية، حيث يدعو إلى المحبة والسلام.
هذه ليست حال فضل شاكر. هو لم يعتزل الفنّ للتفرغ لعبادة الله والدعوة إلى المحبة والسلام. الرجل اعتزل الفنّ ليصير مجرماً، لا يدعو إلا إلى القتل والتنكيل والحقد والانتقام بين أبناء البلد الواحد والدين الواحد. ووصل به الأمر إلى حدّ الاعتراف بالقتل في الفيديو الشهير، وهو مطلوب للقضاء اللبناني بمذكرات توقيف غيابية نظراً إلى تواريه عن الأنظار. خلال الفترة التي غاب فيها، لم يظهر له أثر ولم يُسمع له حسّ، حتى أطلّ علينا قبل أيام بتسجيل صوتي ينشد فيه قصيدة بعنوان «تأهب مثل أهبة ذي كفاح»، وهو عنوان قصيدة للشاعر الجاهلي جساس بن مرة. إلا أنّ أسامة بن لادن زعيم تنظيم «القاعدة» الذي اغتالته القوات الأميركية في افغانستان، كان قد تلاعب بأبيات القصيدة الجاهلية وحوّر معانيها، وكتب على وزنها ما يناسبه ويناسب تنظيمه. وها هو فضل لا يجد إلا القصيدة «الجاهلية» نفسها، ليحوّر معانيها، وينتهك حرمتها، ويتجاوز شاعرها، فيشوّهها بكلام مباشر، مشبّع بالحقد والطائفية والرغبة في الانتقام. ولا ندري ما سرّ اختيار بن لادن قصيدة جاهلية لاستخدام بلاغتها في إيصال رسائل سياسية، ولماذا عاد شاكر وفعل الأمر نفسه مع القصيدة الجاهلية نفسها؟ في مطلق الأحوال، هنا يجب أن يصمت المرء برهة، ويترحّم على الكبير طه حسين (صاحب كتاب «في الشعر الجاهلي» المثير للجدل)، قبل أن يحاول تحليل أنشودة فضل الجديدة. بيد أن أنشودة كهذه لا تحتاج إلى تحليل. فقد كان بالإمكان استبدالها بأيّ خطاب من خطب شاكر أو أحمد الأسير. وبدلاً من أن ينتحل قصيدة جاهلية في غاية البلاغة والتقدّم، كان يمكن لفضل أن يعيش «جاهليته» الرثة، ويلحّن قصيدته التي ألقاها على شاشة «أو. تي. في» قبل أحداث عبرا (صيدا)، واستخدم فيها عبارات نابية على الهواء مباشرة. وها هو هنا يكرّر تشويه القصيدة الجاهلية العظيمة. عبارات لم يكن لها أثر في زمن الجاهلية، أتى بها الجهلة في زمن الإسلام: «تحاول كل الروافض اغتيالي»! ألم يكن حرياً بـ«الفنان التائب» أن يتمثل حقاً بشعراء الجاهلية، وشجاعتهم وإقدامهم، فلا يفرّ مع الأسير بعدما كانت شيمتهما الغدر بالجيش اللبناني؟ ألم يكن حرياً به أن يخرج ويواجه، لا أن يختبئ ويصدر بلاغات صوتية، تنضح بالتحريض والدونكيشوتية. حبذا لو يقرأ جيداً هذا البيت لشاعر جاهلي آخر هو طرفة بن العبد وينشده بصوته الذي لا خلاف على جماله: «الخير خير وإن طال الزمان به/ والشرّ أخبث ما أوعيت من زاد».