الطبيعة هي بطلة لوحات إيتل عدنان (1925)، لكن القياسات الصغيرة لهذه اللوحات، والحيادية المنبعثة منها، تجعلان الطبيعة حاضرةً وفق ترميزات شكلانية، وخطوط أولية، ومساحات تجريدية ساكنة. إنها «طبيعة صامتة» فعلاً بحسب العناوين التي تُطلق عادةً على هذا النوع من اللوحات.
بالتجريدات والرموز ذاتها، تتألف أعمالها السجَّادية، بينما تمتزج الكتابة بخط اليد مع الألوان في دفاترها اليابانية المفتوحة الصفحات على شكل أوكورديون لزائري معرضها شبه الاستعادي الذي افتتح أخيراً في «غاليري صفير زملر». إضافة إلى اللوحات والسجادات والدفاتر، يضم المعرض أفلام سوبر 8 صوّرتها في فترات مبكرة من مسيرتها، وفيلماً تسجيلياً عنها أخرجته اليونانية فوفولا سكولا، وعدداً من إصداراتها الشعرية والفنية والروائية. كأن تعدّد المعروضات تأويلٌ غير مباشر لتعددية هذه الشاعرة والكاتبة والرسامة الاستثنائية التي تكاد تكون «مواطِنة كونية»، بحسب الهويات واللغات التي تتنفس في معجمها ومخيلتها وحياتها التي أمضتها بين بيروت وباريس وكاليفورنيا.
التجريد هو حصيلة الزاوية التأملية التي تنظر بها صاحبة «تجليات السفر» إلى العالم، وحصيلة السعي إلى التقاط ما وراء المشهديات المرئية، وتحويل ذلك إلى نبرة خاصة وأسلوب شخصي. الزمن والأبدية والفلسفة مفردات أساسية في هذه النبرة القادرة على رؤية التفاصيل المغفلة داخل المعاني الكلية والكيانية للكون، والقادرة على جعل صاحبة النبرة نفسها جزءاً من هذه الأبدية الدائمة الجريان. هكذا، تصبح فكرة عرض اللوحات إلى جوار الدفاتر والمؤلفات والأفلام مسألة بديهية، إذْ يصعب الحديث عن تجربة إيتل عدنان في الرسم بمعزل عن نصوصها ولغاتها وأمكنتها. ولادتها لأب شاميّ يتحدث التركية وأمّ يونانية، ودراستها بالفرنسية ثم بالإنكليزية، كل ذلك جعل التعبير بالعربية مسألة مؤجلة ومحزنة. كان الرسم نوعاً من «الكتابة بالعربية»، بحسب تعبيرها، ولكن التجريد المتمادي في لوحاتها جعل العربية أيضاً ممارسةً خافتة. ممارسةٌ وجدت منفذاً لتعلو قليلاً في دفاترها التي نقرأ في واحد منها سطوراً من «ماذا صنعت بالذهب ماذا فعلت بالوردة» لأنسي الحاج، وسطوراً من «السيف وبرج العذراء» للراحل عصام محفوظ في دفتر آخر، بينما الإشارات والاسكتشات والأشكال المتجاورة المنجزة بالحبر الأسود في الدفاتر الأخرى تذكّرنا بالتخطيطات والزخارف اليابانية والشرق أقصوية.
تظل هذه الانطباعات في بالنا، حين نتفرغ أخيراً للوحات الأربعين في المعرض. التجريدات المتكررة تُشعرنا بأننا نشاهد عملاً واحداً أو جدارية ضخمة تم توزيعها على لوحات صغيرة. الألوان المُطفأة والصافية، والتأليف البسيط تمنح اللوحات نوعاً من الحيادية التي تمنع الألوان من الثرثرة الزائدة والميوعة العاطفية. كأن اللوحات هي ترجمات مواربة لتأملات شخصية في حركة الكون وأعمال الطبيعة. قد نتخيل أن الدائرة الرمادية الصغيرة المرسومة على خط أزرق يقسم اللوحة إلى نصفين، هي شمسٌ تطلّ على المساحات الأدنى الشبيهة بسهول منخفضة أو جبال عالية. وقد نتخيل أن المنظر كله مرئيٌ بعين الطائر من الأعلى. ثم ننسى كل ذلك، حين نرى دائرتين أو شمسين في لوحة واحدة، قبل أن تختفي الدائرة نهائياً، وتُترك اللعبة في عُهدة التجريد المشغول بتناظرات وتجاورات أبدية بين الدوائر والمربعات والمثلثات والمساحات الهندسية الأخرى. الأبدية هي الجوهر الخفي لهذه التجريدات التي يُراد لها أن تتساوى مع عمل الطبيعة ونتائجها. كأن إيتل عدنان ترسم تعاقب الزمن، وترسّبات العيش، من دون أن تُحضر الآثار والتشخيصات الواقعية للزمن والعيش إلى اللوحة. التجريد الصامت هو المقابل اللوني لأشعار إيتل عدنان التي تحتفظ بتأملات مماثلة، لكنها أكثر صخباً واستطراداً من الرسم. عارفو تجربتها لا يستطيعون تجاهل فكرة أن الرسم هو ممارسةٌ متأخرة بالنسبة إليها، وأن الشاعرة بدأت رحلتها بقصيدة طويلة عن البحر. بدايةٌ فتحت حواسها على التأمل المبكر، ومزجت كتاباتها التالية مع خلاصاتٍ فلسفية وصوفية متحصلة من حياةٍ موزعة في أمكنة ولغاتٍ مختلفة. خلاصاتٌ يمكن أن نرى بعضاً منها على شكل قصاصات مضافة إلى المعرض. نقرأ عباراتٍ واستعاراتٍ مثل: «المرأة هي كلّ ما فقده الرجل»، و«كل امرأة هي عذراء إلى الأبد»، و«الزمن هو موطني والضباب أرضي»، و«أفضِّل الموجة على البحر»، فنكتشف أنّ الكلام أيضاً هو جزءٌ من لعبة التجريد في اللوحات، وأن ثمة خيطاً يجمع هذه اللغات والهويات والممارسات التي تتقنها هذه المبدعة التي تقف على حدة على خريطة الكتابة العربية. لقد ظلت صاحبة «بحر وضباب» على صلة قوية بالمعاني الأكثر ديمومةً للطبيعة والزمن، ولا بد أنها وهي تخطو إلى التسعين، لا تزال «طفلة الأبدية».

إيتل عدنان: حتى 26 تشرين الأول (أكتوبر) ــ «غاليري صفير زملر» (الكرنتينا ـ بيروت) ــ للاستعلام: 01/566550



عابرةُ الهويات والأمكنة

تأخرت إيتل عدنان في عرض أعمالها التشكيلية. الرسم ظل مخلوطاً مع الكتابة، وخصوصاً في تجربة الدفاتر اليابانية المطويّة الصفحات. لعلّ عرض عدد من دواوينها ومؤلفاتها إلى جانب لوحاتها، هو اعترافٌ بالحضور الطاغي للكلمة في هذه التجربة المتفردة.
الكتابة ظلت هوية أساسية في مسيرة صاحبة «يوم القيامة العربي»، ولكن مشاركاتها الفنية زادت في السنوات الأخيرة، وتُوِّج ذلك بمعرض استعادي ضخم أقيم العام الماضي في معرض «دوكومنتا» الشهير في ألمانيا، وها هي تعود بمعرض مماثل إلى بيروت _ المدينة التي صنعت فيها اسمها، قبل أن تستأنف رحلتها في هوياتٍ وأمكنة وثقافاتٍ عديدة.