«هذا المبنى مهدّد بالانهيار». بهذه اللافتة، يستقبلك عدد من الأبنية التراثيّة في بيروت. ونحن نبتعد تلقائياً أثناء مرورنا بها، وإن لم نكن متأكدين من صحة خبر الانهيار. لكنّ هذا ما لم تفعله منى الحلاق مع «مبنى بركات» (البيت الأصفر) في السوديكو التي كانت إحدى مناطق التماس المشتعلة في عزّ الحرب الأهلية اللبنانية.
لو نظرنا إلى الرحلة التي قادتها المهندسة المعمارية اللبنانية مع عدد من الأصدقاء، لقلنا إن المبنى نجا بمعجزتين: معجزة ما بعد الحرب، ومعجزة النفاذ من سياسة الهدم التي تقود أبنية المدينة وإرثها العمراني إلى الهلاك. منذ عام 1997، أخذت الحلاق على عاتقها مهمة الدفاع عن المَعلَم، فربحت جولات عديدة في هذه المعركة الطويلة. وفي أيلول (سبتمبر) المقبل، ستمنح الدولة الفرنسية «وسام الاستحقاق الوطني برتبة فارس» للحلاق تقديراً لجهودها في الحفاظ على ذاكرة بيروت المتمثلة في «البيت الأصفر». حازت الحلّاق شهادة الماجيستير في الهندسة المعماريّة من إيطاليا قبل أن تعود إلى بيروت (1994) في بداية التسعينيات، أي في تلك الفترة التي بدأت الوعود الخائبة تتوالى على العاصمة بعد الحرب، وكان أقساها مشروع «سوليدير» الذي ظهر كالأخطبوط موزِّعاً أطرافه على المدينة، ليبتلع كل ما عجزت همجية الحرب الأهلية عن التهامه.
وسط أوهام الازدهار التي جلبتها مرحلة «إعادة الإعمار»، وقعت عينا عضو اللجنة التنفيذية للحفاظ على التراث (ابساد) على «البيت الأصفر». تمسّكت به لأنها رأت فيه رمزيّة ما. المهندسة المتخرجة حديثاً يومها، لفتها المنزل بتصميمه المعماري المميّز الذي يعود إلى زمن كانت فيه بيروت مختبراً وحاضناً أميناً للأنماط العمرانية التجديدية. هذه الحماسة النظرية التي ترافق الطلاب المتخرجين حديثاً ـــ قبل أن يصطدموا بالواقع ــــ ذهبت فيها منى إلى جهة قصوى، حين نجحت في إيقاف عمليّة الهدم، وجعلت من البيت البورجوازي المهجور متحفاً لذاكرة بيروت. المنزل اجتمعت فيه عبقريّتان: عبقريّة يوسف افتيموس (1866 ــــ 1952) المهندس المعماري الطليعي الذي صمّم البيت، وعبقريّة القنّاص الذي تمترس في المنزل، فاستطاع موالفة ديكوراته ومتاريسه مع هندسة البيت. هذا الأخير أصبح بمثابة مكان تتردّد إليه منى الحلاق باستمرار، بوصفه نموذجاً ذا قيمة عمرانية يرتبط مباشرة بذاكرة الحرب. أثناء مرورها أمام المنزل في عام 1997، استوقفتها بعض التغييرات الطارئة عليه، فقد رأت جزءاً من حديد المنزل وبلاطه الملوّن مفككاً، تمهيداً لعملية الهدم. ذهبت منى تواً إلى «جريدة النهار»، طالبة منهم نشر صورة المبنى مع عبارة «وقف الهدم». خمسة أيام من الجهد المكثّف، والمضاعف من قبل منى وبعض الأصدقاء استطاعوا فيها وقف عملية الهدم بتفاهم شفهي. وحتى عام 2003، لم توفّر منى أي مقابلة صحافية أو مناسبة للحديث عن «البيت الأصفر» وإظهار أهميّته من خلال ملفّ موثّق انكبّت على إعداده. خلال السنوات الستّ هذه، خاضت سجالات قضائيّة مع عائلة بركات التي كانت لا تزال تملك المبنى، وقد طلبت من بلديّة بيروت «إجازة هدم وإعادة بناء». تتالت الأعوام بمتابعة مكثفة من الحلاق التي توِّجت جهودها باستملاك بلديّة بيروت المبنى وتحويله إلى منفعة عامة وفق المرسوم 10362 الذي قضى بإقامة «متحف وملتقى ثقافي وفني وحضاري» تحت مسمى «متحف بيت بيروت».
بعدها، وقّعت بلديّتا بيروت وباريس اتفاقاً للمحافظة على «البيت الأصفر»، قبل أن يُختار لاحقاً المهندس يوسف حيدر لترميم المبنى من دون إجراء أي مسابقة. لهذا السبب، أصرّت الحلاق على تأليف لجنة علمية استشارية تعنى بمواكبة عمل البلديّة والمهندس، وتضم 14 من المهندسين والأكاديميين والمتخصصين تحت رعاية «المعهد الفرنسي في بيروت». وفي خطٍّ موازٍ لهذا النضال القضائي والرسمي، استطاعت منى بجهد فردي الحفاظ على بعض مقتنيات البيت، وقد أقامت معرضين قبل سنوات ضمّا مجموعة من أغراض الطبيب نجيب الشمالي الذي كان يسكن في إحدى شقق الطبقة الأولى من المبنى (راجع الكادر). بعدما وضع الحجر الأساس في بداية هذا العام، سجّل عدد من أعضاء اللجنة ومنهم الحلاق بعض الملاحظات والتحفظات على عملية الترميم: «نحن لسنا راضين عن التعامل مع المبنى، وخصوصاً الواجهة» تقول الحلاق قبل أن تضيف: «لا يهمّنا التركيز على الناحية الجمالية بقدر الاهتمام بالحفاظ على الأسس المعمارية وآثار الحرب على المبنى». وفي إطار الحديث عن العقبات والثُّغَر المستجدّة في عمليّة الترميم، تروي الحلاق قصّة الدرج الذي استأصله حيدر من المنزل بعد فشل محاولات توقيفه وتوقيع عريضة: «بعدما عمّر افتيموس البيت عام 1924 بطبقتين فقط، أتى بعدها ليكمل بناء المبنى في عام 1932، لكنه عندما رأى الدرج الذي بناه المهندس الشاب فؤاد قزح، تنازل عن إكماله وسلّم الأخير العمل بسبب كفاءته».
اليوم بعد نحو 16 عاماً من العمل المستمرّ والجدي للحفاظ على «البيت الأصفر»، ترى الحلاق أنّ المبنى أنقذ، وهي فخورة جداً بالعمل المتواصل لإعادة إحيائه. في أيلول (سبتمبر) المقبل، ستمنح الدولة الفرنسيّة الحلاق «وسام الاستحقاق الوطني برتبة فارس» لجهودها في المحافظة على «مبنى بركات» تحديداً. ومن المفترض أن ينتهي العمل على المشروع السنة المقبلة، لكن الحلاق تستبعد ذلك، نظراً إلى عملية الترميم الطويلة التي يحتاجها المبنى واستكمال محتويات المتحف. في جميع الأحوال، يأتي «متحف بيت بيروت» في وقت لا تزال فيه ذاكرة الحرب تنحصر بالكتب والأفلام والأعمال الفنية... متحف على خط التماس يأتي ليوثّق ذاكرة المدينة البصرية والمعنوية، فيعيد إحياء إرث الماضي وتركته الثقيلة ويوميات القتل ضمن قالب تفاعلي حديث.



بحثاً عن «وجوه ضائعة»

في خط موازٍ للسجالات القضائية والإعلامية التي خاضتها منى الحلاق، أعدّت الأخيرة ملفاً يوثّق ذاكرة «مبنى بركات» المعنوية، واستخدمته كسلاح لإظهار أهميته. من خلال زياراتها المتتالية خلال التسعينيات، جمعت الأغراض الشخصية الخاصة بسكان المبنى قبل الحرب، وهي بدورها تحيلنا على قصصهم وحياتهم ونمط عيشهم حينها. وفي عام 2001، قدمت الحلاق معرضاً تجهيزياً بعنوان «وجوه ضائعة» في بيروت ضمّ أدوات، وملابس، ومعدات طبيّة، وأحذية ورسائل عثرت عليها في شقّة طبيب الأسنان نجيب الشمالي الذي كان يسكن الطبقة الأولى من المبنى. هذا المعرض استعادته عام 2009 في مناسبة «اليوم الوطني للتراث» في «قصر الأونيسكو»، إلى جانب معرض تجهيزي آخر بعنوان «يوسف أفندي أفتيموس 1866ــ 1952، عمارة فوق الزمان».