ليس هذا العام عام فلسطين، وبالتأكيد لم يكن العام الذي سبقه كذلك. العالم العربي هشم بوصلته، أدار ظهره للحراب المسننة وأخذ يتلهى بأشواك عالقة بين أصابعه. فلسطين لم تعد قضية، والاحتلال والتهجير والتهويد تفاصيل صغيرة لن تفسد للثورات قضية. أما النكسة، فهل تذكرونها؟ عندما هجّر من لم تهجِّره النكبة، عندما ولدت مصطلحات مثل «حق العودة» و«الأونروا» وغيرهما، هل تعني تلك العبارات شيئاً؟
هي تعني الكثير لمن رفضوا تصفير الذاكرة، كالمخرجة الفلسطينية آن ماري جاسر. في باكورتها، عادت الى بلادها تبحث عن حق من بين حقوق كثيرة سلبت، فكان فيلمها الروائي «ملح هذا البحر» (2008) أقرب الى التوثيق. بحثت في عيون المحتل عن حيل اعتاد اختراعها ليهرب من المواجهة، عن فن تزوير التاريخ. واليوم، تعود مع فيلم «لما شفتك» (2012) الذي بدأ عرضه في «متروبوليس أمبير صوفيل». عنوان وحده يحمل التأويل، لا يبدو أنّ هناك علاقة واضحة بين عنوان الفيلم ومضمونه، لكن «لما نشوف الفيلم» يظهر بوضوح أنّ المخرجة لا تساير، لا شيء في بالها غير فلسطين، لا شيء لدرجة الفظاظة أحياناً، فلا عقد داخلية ولا قصص مركبة، ولا شيء خارج صراط القصة المستقيم: العودة.
يتحدث العمل عن أسرة من بين عائلات كثيرة تهجّرت بعد نكسة الـ 1967. غيداء (ربى بلال) هربت مع ابنها طارق (محمود عسفة) الى أحد مخيمات اللاجئين في الأردن في انتظار زوجها، غير أن طارق يرفض الانتظار والتأقلم مع الواقع الجديد وتبقى إرادة العودة شاخصة أمام عينيه، فيهرب ليجد نفسه في مخيّم تدريب للفدائيين الذين يتجهزون للعودة الى أرضهم كمقاتلين. هنا تبدأ قصة الأمل. قصة قتل الإحباط في مهده الذي يسمى أمراً واقعاً. حتى أنّ تسمية الفدائيين انكفأت كما انكفأت معالم المقاومة الأولى، حين لم تكن تتلطى تحت الشعارات الدينية، ولم تتخذ غير الحرية قضية لها. في تلك المقاومة، كان اليساري والإسلامي رفيقي سلاح، والنساء شريكات حقيقيات في صراع البقاء. كانت المقاومة أقرب الى التحرّر من الحرية ومقاتلوها أقرب الى الأرض من السماء.
هذا الواقع اليوتوبي نجحت المخرجة في تظهيره، وأنقذها هذا النجاح من أخطاء كثيرة، لا سيما أنّ العمل تنقصه الكثير من اللمسات الإبداعية التي ترتقي بالشريط ليصبح أكثر احترافاً، من كتابة السكريبت إلى صياغة الشخصيات والعلاقة بينها مروراً بكتابة الأحداث، وتمثيل البعض الذي أظهر ضعفاً كبيراً، فضلاً عن بعض اللقطات التي تظهر نقداً غير مبرر كالسخرية من اللبنانيين وفظاظتهم في مقابل انسانية الأردنيين (مع العلم أنّ الأردن حيث صوِّر الشريط ما لبث أن طرد الفدائيين ليحطّوا في لبنان). لكن كل تلك «الهفوات» يمكن غضّ الطرف عنها بسبب القوة التعبيرية المتمثلة في شخصية طارق الذي أبدع تمثيلاً فيما أبدعت جاسر (كاتبة الفيلم أيضاً) في كتابة شخصيته بالذات دون سواها. طارق بدا مقنعاً جداً في أدائه ومتنقلاً بسلاسة بين المشاهد التراجيدية والأخرى الكوميدية. أما التصوير فتولته السينماتوغراف الفرنسية ايلين لوفار الحائزة جائزة «غاودي» الاسبانية عن فيلم «هنا حيث أعيش» لمارك ريشا، فكان أيضاً تصويرها تقنياً بلا أي قيمة إبداعية مضافة كأنها كانت تقوم بدورها من دون إضافة أي شيء ذاتي منها.
رغم كل هذا، إلا أنّ إعادة إحياء قضية كقضية «لما شفتك» وتطعيم المكتبة السينمائية الفلسطينية والعالمية بالمزيد منها، هو عمل فدائي بحدّ ذاته. إنّه دواء ضد ألزهايمر التاريخ الذي اختار كتّابه أن يطمسوا الهوية، مستوطنة تلوَ مستوطنة.
«لما شفتك» لآن ماري جاسر: «متروبوليس أمبير صوفيل» (الاشرفية، بيروت) ـ للاستعلام: 01/204080



جوائز بالجملة

إلى جانب مشاركاته في أهم المهرجانات العالمية والعربية مثل تمثيله فلسطين رسميّاً في «الأوسكار» 2013، و «مهرجان تورونتو السينمائي الدولي»، حصل شريط آن ماري جاسر «لما شفتك» على «جائزة شبكة تعزيز السينما الآسيوية» (NETPAC) عن فئة أفضل فيلم آسيوي في «مهرجان برلين السينمائي 2013»، وجائزة «لجنة التحكيم» في «مهرجان القاهرة السينمائي 2012»، و«جائزة لجنة التحكيم» في «المهرجان الدولي للفيلم العربي 2012»، و «جائزة دون كيشوت» في «مهرجان قرطاج السينمائي 2012»، و جائزة «أفضل فيلم عربي» ضمن مسابقة «آفاق جديدة» في «مهرجان أبوظبي السينمائي» العام الماضي، كما فاز بالجائزة الأولى في «مهرجان سالونيك الدولي» في اليونان.