ثمة اشتغالٌ تنطوي عليه القصيدة لتشذيبها من الزوائد الكمية والفصاحة البلاغية يصل حدود التقنين، من دون تعمّد في إخفاء مفاتيحها أو تغييب بوصلة الدخول إلى عوالمها بأريحية. قد يبعث هذا الإشتغال على إنكار الإنولاد والتطور الذاتي للنّص، ويدفع إلى افتراض وجود تحديدات صارمةٍ وقولبات بنائيةٍ على حساب مرونته؛ بغية كبح أي تفلّتات محتملة، لكنه - إن صحّ - أبعد ما يكون عن تنميط الحكمة الموجزة والمكثفة في لبوس شظية أو ومضة شعرية مقنّنة، بقدر ما يمنح كلّ قصيدة خفتها المحتملة ومذاقها الخاص.
بيد أن ما يغامر به باكير ضمن هذه الطقوس الإجرائية لقصيدة النثر لا يقلل من كمّ الوقفات الملتمعة بذاتها ومن ذاتها، والتي تستميل أنصار هذا الشّكل الشعري وبعض خصومه المعتدلين. هنا، يدرك القارئ ما بذله الشاعر في اقتصاداته اللغوية، والإبقاء على المنقّى من الشوائب والمقتضب، وكأنه بهذا التشخيص يطوّبُ معجماً خاصاً لا يعنى بالوفرة اللغوية وإنما باجتلاب كلّ ما من شأنه أن يمنح النّص هويةً واضحةً ""في ذكراه/ أحبّ أن يهدي نفسه شيئاً/ فتجنّب التحديق في المرآة" أو ""لو لم يشنقوا المصباح/ بخيطٍ مظلمٍ/ يتدلّى من سقف العتمة/ لما أضاء"

الإجابة شعرياً لدى باكير تكمن في إيجاد معادلٍ تعبيريٍّ لكلّ ما افتتن به، وحقيقيٍّ إلى حدّ كبير في إعترافاته أو إجاباته على أسئلة الصورة/ الوجه. لهذا، وكمن يودّ أن يلتحق بالمرايا قبل أفولها في قصيدة "قبل أفول المرايا"، يدفعنا إلى تلمّس القواسم المشتركة بين النهر الذي تلفّت، مثلما يشي عنوان المجموعة، وكمّ المرايا التي جَهدَ في تعيينها تحت وطأة الوهم لتمنح سلسلة متباينة من الإنعكاسات، متمثلاً رؤيةً نرسيسيةً في بعض الأحيان وفاتحاً شهيّته للأسئلة المأزومة في أحيان أخرى "ترى/ كيف ستبدو الوجوه/ لو قدِّر للمرايا/ أن يهرم فيها الضوء/ وتشيخ؟". بل يصل الأمر فيه إلى رفض استعادة الدلالة، ولو مؤقتاً، من خلال قلب الوظائف المنوطة بالمرايا لصالح ما يقابلها ويقف في مواجهتها "غريبٌ وجهك/ كلما حدَّقتْ فيه المرايا/ تئنُّ الكمنجات".

والحالة هذه، تتولّد المفاجأة والإدهاش أساساً في أغلب نصوص المجموعة من توليف الثيمة المركبة بأبسط الأدوات الشعرية، واعتماد الشاعر في تأثيث كل لحظة مستقلة، كما سلفت الإشارة، على لغة مقتضبة وغير معقّدة، ترصد تباين الأحوال من دون أن تنفصل عنها، إلى جانب عدم التردد في صوغ ترجيعات رومانسية ومحاولة تأطير النص بمشهدية سينمائية أو بصرية يتفحّص ويختبر ذاته في ضوئها. سوى أن ذلك لا ينفي اختلال المعادلة أحياناً وفقدان القدرة على ترويض الفكرة رغم محاولات تفلّتها من طوق الحالة والإحالة الشعرية "قلبي ليس من زجاج/ ولم أرمِ أحداً بقصيدة./ لكن جدرانه تتشقق/ كلما أينعت امرأة/ على بابه". المشهدية أيضاً تنفلت من عقال تكوينها اللغوي ومؤطراتها الكلامية نحو فسحة الشّكل الطباعي وشكلانية الكتابة وفق مقترحات السّطر الشّعري؛ كون باكير يولي اهتماماً بمسألة النّص كصورةٍ تتحرك في فضاء ساكن، أي بياض الصفحة، وكأنها مطالبةٌ مستترةٌ بأنّ ينال ذلك النّص حقّهُ من القراءة البصرية لاستكناه مزيدٍ من المتواريات، والشاعر بهذا يترك هوامش من الصّمت، ويعمدُ إلى وضع القارئ مباشرة في مواجهة اختبارٍ قد لا يوافق عليه كثيرون. من جانب آخر، نلمسُ ما جاهدته لغة باكير للتكفّل بخلق اقتران متوازن - ليس مطالباً به - بين مستويين إجرائيين في الآن ذاته، هما "شَعرَنَة" الفكرة و"فَكرَنَة" الشّعر، شرطَ انتماء كلّ سطرٍ أو مقطع شعري إلى كلا المستويين معاً. ليس المقصود هيمنة أو إبراز جانب على حساب آخر، وإنّما افتراضٌ لخلق مصاهرةٍ أو تجاذبات مرهقة بين طرفي معادلة تأخذ بالنّص ومفاصله تدريجياً منذ تشكّلاته وممهّداته الأولى وصولاً إلى نقطة الإكتمال أو "القفلة" التي تتحقق معها وفيها لحظة الشعرية. في قصيدة "مرآة النجمة" يقول "تزورني كلَّ ليلةٍ/ تتلامعُ في عينيَّ/ وتسألُ باكيةً:/ بأيِّ ذنبٍ قطفتموني من هناك/ من بين يديّ الله/ وأطفأتموني على أعلامِكم؟"

على تخوم الدهشة يكتب فوزي باكير باكورة نصوصه، مشفوعاً بروحيّة من يكتشف قارات جديدة للشعر "هل تدرك امرأةٌ/ مرّت غريبة في طرقات الليل/ أن شاعراً رآها تعبر نهره/ ثم عاد إلى قلبه مبلّلاً بقصيدة/ تضجّ فرحاً ببحّة خلخالها الفضي..؟" ولعلّ نظرةً فاحصةً تكشفُ أن "حين تلفّت النهر" لا تفتقر إلى مقوّمات تضعها في مكان متقدّم عمّا يقال عادة عن البدايات الشعرية رغم كونها مجموعة أولى، كما تكشف مراوحة خطوات فوزي باكير الأولى بين قصائد تعنى بأدقّ التفاصيل اليومية والشخصية بنبرة صافية، وأخرى تستجيب لأصداء مُضمرة وتجارب شعرية منسربة ذات حظوة عنده، في حين لا يخلو المشهد الشعري الجديد في الأردن من شعراء لا تنفكّ تشعرنا كتاباتهم بأنّ القصيدة التي يتولّونها ويتعهدون باجتراحاتها لم تفارقها العافية، لكنها عافيةٌ غير مستقرة تماماً؛ نظير ما يعترضها من أزمات وما تتعرّضُ له بين فينة وأخرى من زلّةٍ هنا وعثرةٍ هناك تربكُ توازن الحالة في ذلك المشهد، وبالتالي تخلخل تعاقدات القصيدة مع القارئ، وتعكّر صفو المزاج الشعري العام.



* شاعر وناقد، عمّان.