كمال بُلّاطه *مثل إسماعيل شمّوط ومصطفى الحلّاج، تاق ناجي العلي لإيصال التجربة الفلسطينية إلى أوسع جمهور ممكن في العالم العربي. وفي حين كانت أعمال شمّوط الفنية التشخيصية تنتشر ببوسترات ملوّنة وأعمال الحلّاج عبر طبعات يدوية متوالية من أعماله الطباعية؛ كان ناجي عازماً على خلق لغة تصويرية تتعدى أطر التقاليد في محيطه. ولد ناجي في الشجرة قرب طبريا عام 1937، القرية التي سرعان ما ستتعرض لتطهير عرقي وإزالة عام 1948. وكان في الـ 11 من عمره، عندما وصل مع عائلته إلى مخيم للاجئين في ضواحي صيدا في جنوب لبنان. وبعد إتمامه الدراسة في مدرسة تبشيرية، عمل في قطف الحمضيات، وراح يرسم في ما يتاح له من وقت فراغ بعد عمله المضني. لاحقاً، انتقل إلى طرابلس حيث التحق بمعهد تدريب مهني ليتعلّم صنعة الكهربائي. وبعد الدرس، كان يشتغل عامل بناء.

طوال الستينيات، بدت أصالة موهبة ناجي العلي واضحة لمن حضروا المعارض الفنية الجماعية الفلسطينية في بيروت، التي شارك فيها ببعض أعماله الفنية الأولى. وبعكس شمّوط الذي وظف تقاليد البلاغة الايقونغرافية لإيصال رسالته السياسية، وبعكس الحلاج أيضاً الذي رسم مخلوقات خرافية من عالمه الداخلي؛ فإن ناجي لم يظهر اهتماماً لا بكسب جمهور ولا بعرض اضطرابه الداخلي. بدل ذلك، سعى إلى هزّ الجمهور وإخراجه من دور المتلقّي السلبي لإجباره على مواجهة مأزقه مع التجربة الفلسطينية.
وفي زمن كانت فيه البوسترات هي أكثر الأعمال الفنية ظهوراً في الحيّز العام، ملصقةً في معظم شوارع وسط البلد في بيروت تصوِّر في الغالب فدائياً سقط في معركة؛ فإن سلسلة من لوحات ناجي الأولى تكوّنت من شظايا مرايا ملصقة في إطار اللوحة، بحيث تستحيل مشاهدتها من دون أن تصبح ملامح المشاهد نفسها معكوسة في مراياها. على هذا الأساس، استعمل الحد الأدنى من المواد لتوريط المشاهد في فنه. في واحدة من اللوحات، يقرأ المشاهد فوق انعكاسات وجهه عبارة «مطلوب حياً أو ميتاً». وفي عمل آخر، يثبّت الفنان قضباناً معدنية فوق مرآة، ليرى المشاهد نفسه مسجوناً. أما المشاهد الذي يرى انعكاس وجهه في مرآة يعتلي زاويتها شريط أسود، فقد يتخيّل، ولو للحظة عابرة، إعلان موته الشخصي أو استشهاده.جرّب ناجي العلي صيغاً سردية أخرى بعيدة عن اللغة التصويرية التي استعملها شمّوط أو سبرها الحلّاج. في مطلع حياته الفنية، حين لم يكن يملك ثمن أنابيب ألوان، رسم سلسلة من الأعمال تصوِّر حياة المخيم باستعمال منتج نفطي غليظ قريب من الإسفلت المعروف شعبياً بالزفت، وقد حصل عليه من منشآت البناء حيث كان عامل بناء. وعبر الصبغة حالكة السواد التي فردها لتأليف شخوصه، كان ناجي يحوِّل الزفت ــ الكلمة المستعملة شعبياً لوصف الحالة المزرية ــ إلى وسيط تصويري، بحيث يمكن أن يُنظر إلى الرسم بالزفت ــ النفط الخام ــ كتحدٍّ لأقران ناجي الطامحين إلى جذب أغنياء النفط من مقتني الأعمال الفنية، في فترة الازدهار النفطي. في النهاية، هجر ناجي التعبير من خلال اللوحة. وبتشجيع من الروائي غسّان كنفاني، أخذ ناجي طريقه لامتهان الرسم الكاريكاتوري، حيث حرّره نجاحه كرسّام كاريكاتور من العمل في الأشغال البدنية الشاقة.
لقد رأى ناجي رسوماته كشكل فني تفاعلي، يمكّنه من دمج عناصر محكية وبصرية بعيداً عن التكلّف الذي ابتلي به «الفن» في محيطه. وكرسام كاريكاتور في صحف يومية واسعة الانتشار في ذلك الوقت كـ«السياسة» و«القبس» الكويتيتين و«السفير» البيروتية؛ فقد حقق انتشاراً واسعاً وشعبية وأصبح يصل يومياً إلى عشرات آلاف القراء في العالم العربي. وقد تمكّن بسخرية لاذعة محبّبة، من تلخيص موقف الفلسطيني العادي في مخيّمات اللاجئين في مواجهة مشاريع التنازلات السياسية والتطورات السياسية التي تحدث في المنطقة.
نقده الذي لا يرحم لسياسيين وقادة ــ فلسطينيين وعرب ــ ممن قدموا تنازلات وطنية، اعتُبِر مما لا يمكن احتماله. إن جرأة ناجي العلي في فتح جبهات القتال كلّها في وقت واحد ومن دون مساومة على معتقداته السياسية، وسّعت حلقة أعدائه. كانت عملية اغتياله على أحد أرصفة لندن مفاجأة رهيبة للبعيدين عنه وفاجعة متوقّعة للمقرّبين منه. جاء استشهاده ليبتر أكثر المواهب الفنية الفلسطينية استثنائية في طاقتها الإيصالية على مدى الساحة العربية طيلة ربع قرن من عطاء إبداعي لا نظير له.

فنان تشكيلي وباحث فلسطيني، والنص مقطع مختار من كتابه «الفن الفلسطيني، من 1850 إلى اليوم» (الساقي، لندن 2009 (بالإنكليزية)؛ عرّب المقطع نجوان درويش).
Kamal Boullata, PALESTINIAN ART, From 1850 to the Present, Saqi 2009 .