يأتي الكاتب اليمني الشاب مروان الغفوري (1980 ــــ تعزّ) الرواية من باب الشعر، عاكساً حالة من الهجرة الجماعية التي فعلها شعراء وكُتّاب قصة قصيرة في اليمن. كأنّ ما فعلوه في السابق كان تمريناً عبّد الطريق باتجاه عالم الرواية. كاتبنا كان قد ظهر في إصدارين شعريين مبكّرين هما «ليال» و«في انتظار نبوءة يثرب». في هذين العملين، لم يقدر الغفوري على مغادرة القاموس اللغوي المترسب في عقله وثقافة دينية وعقائدية صارمة ارتبط بها مبكراً.
لكنّه بدا كأنّه يرغب في التخلص من ذلك الإرث في إنتاجاته الكتابية التالية. بهذا المعنى، كانت الرواية مفتاحاً لتلك الرغبة التي يبحث عنها، فكانت باكورته «كود بلو»، (دار أكتب_القاهرة) التي قتلتها الأخطاء الطباعية التي احتوتها، فظهرت منفلتة وينقصها الكثير. ارتباك فني تعافى منه في روايته الجديدة «الخزرجي» (دار أزمنة _ عمّان).
تمنحنا القراءة الأولى لهذا العمل ملامح عن قدرة كاتبه على التخلّص من العثرات التي ترتبط عادة بالرواية اليمنية الشابّة، أي الاعتقاد بأنّ حياة الكاتب وما كان له منها قادران على فعل رواية ما. عثرة ظهرت في باكورة الغفوري «كود بلو» حيث انعكست حياة المستشفيات التي كان يعيشها أثناء دراسته للطب في القاهرة في أجواء العمل.
هكذا، تمحورت الحكاية حول مريض توقف قلبه عن النبض، فبقي يتلصّص على الأحياء الذين يحيطون بالمكان.
في «الخزرجي» التي كتبها الطبيب مروان، لن نجد شيئاً من سيرته وحياته اليوم باستثناء محطة القطار الواقعة في المدينة الأوروبية التي يقيم فيها حالياً، وهي المحطة التي ستكون قاعدة لانطلاق الحكي عن «الخزرجي» ورفيقه المجذوب عبد السلام اللذين يشكّلان محور العمل.
لكن يبدو أنّنا سنقع في المتاهات منذ الجزء الأول من الحكاية، ونحن نحاول ترتيب الأصوات الساردة: لدينا الخزرجي والمجذوب من جهة، ومن جهة أخرى الراوي ورفيقته التي تقاسمه مقاعد محطة القطار التي يذهبان إليها في مواعيد غير محدّدة مسبقاً.
إنّه أمر جديد على الرواية اليمنية التي اعتاد قراؤها أشكالاً سردية تقليدية تحرص على ترطيب عملية المرور إليها بشكل
عام.
لكن لا يبدو أنّ صاحب «الخزرجي» يتعمّد وضع عراقيل أمام جريان السرد ومرور تفاصيل القصة الكبيرة إلينا. هو يعرف كيف يحطّ ويتنقل، ويعرف أيضاً أين هي القصة الكبيرة، رغم العراقيل الكثيرة التي قد يقع عليها القارئ كمعضلة الزمن التي يجري فيها الحكي، فلا نعرف إن كان البارحة أو الغد! إذاً، علينا أن نبقى يقظين ومتنبّهين ونحن نقلب «الخزرجي» قطعة وراء أخرى، وانتقالاً تلو آخر. يحكي الراوي لرفيقة المحطة عن الخزرجي الذي كان مقيماً في تلك البلاد البعيدة التي كان هو مقيماً فيها. ثم سرعان ما تعود الرفيقة لتسلّم أداة السرد، فتسأل عن عبد السلام المجذوب الذي كان نديم الخزرجي. خطوة تظهر بعدها ملامح البنية الكاملة للعمل.
لا حدث رئيسياً ومحورياً في الرواية، بل إنها تقوم بكاملها على السرد عن طريق صوتين هما الراوي وصديقته. البنية برمتها ستبدو غائمة، والحدث العام يتمثل على نحو لا يحمل عنواناً جامعاً في الظاهر. حتى تلك الرفيقة ستبدو محاطة بهذه الحالة الغائمة. يقول الراوي «كم أتمنى لو أنني استطعت أن أروي سيرة الخزرجي. لقد تحدثنا بصورة عامة عن الرجل. لكنها عاجلتني بالقول إنّه ربما كان شاعراً أو فناناً». لكن ضبابية شخصية الخزرجي وحياته ستتكشّفان تدريجاً مع الإيغال في السرد.
ستبدو عملية إنتاج الإسقاطات والتناص والإشارات والمراجع الفذّة التي تمتلئ بها «الخزرجي» مفتاحاً لتكوين العنوان العريض: الأسئلة التي بلا إجابات محدّدة. وتبدو هذه الأسئلة شخصية لكنها تستلقي على شأن إنساني قد يلمسه كل قارئ من الجهة التي تعنيه وتخصه. كأنّ مروان الغفوري يقول: «هذه ليست روايتي وليأخذ كل واحد منكم ما يعنيه». إنّها نجاة من شِراك الذاتية التي يغرق فيها غالبية صُنّاع الرواية اليمنية اليوم ليظهروا لنا كأنهم يحكون لأنفسهم عن أنفسهم.