ينهض «التحول الديموقراطي _ سورية نموذجاً» (دار الريس _ 2013) على مقارنة موجات الانتقال الديموقراطي التي شهدتها دول أميركا اللاتينية وأوروبا الشرقية وإفريقيا بالتجربة السورية المأزومة. يعمل الناشط السوري رضوان زيادة الذي أُجبر على مغادرة بلاده عام 2007 على تحرّي تجارب هذه البلدان التي زارها بغية التعرف إلى قصص نجاحها وفشلها.
يرتكز الكتاب على فكرة المقاومة السلمية للأنظمة الديكتاتورية. وقد استقى مدير مكتب العلاقات الخارجية في «المجلس الوطني السوري» حالياً، معظم خلاصاته من منظّري التحول الديموقرطي على رأسهم عالِم السياسة الأميركي جين شارب (1928) الملقب بـ «مكيافيللي اللاعنف»، علماً أنّه لم يكن أول من نادى بالكفاح السلمي، بل سبقه المهاتما غاندي (1869- 1948) ومارتن لوثر كينغ (1929- 1968) والفيلسوف الأميركي هنري ديفيد ثورو (1817- 1862) وعملاق الأدب الروسي ليو تولستوي (1828 – 1910).
يدرس صاحب «مسيرة حقوق الإنسان في العالم العربي» الطروحات التي تقدم بها رائد النضال السلمي شارب مطور نظرية «إستراتيجية المقاومة السلمية»، مستحضراً ومناقشاً أفكاره الواردة في مؤلفه الشهير «من الديكتاتورية الى الديموقراطية». يتوقف زيادة عند التحولات الدولية في الشرق الأوسط بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر التي دفعت المجتمع الدولي الى مطالبة الدول العربية بضرورة الاصلاح السياسي. هذا الحدث أنعش المعارضة السياسية والمجتمع المدني في دول عربية عدة وكذلك في سوريا وتونس الأكثر تعبيراً عن الأنظمة التسلطية كما يقول. لا ينفي الكاتب التبعات المتأتية عن الغزو الأميركي للعراق وتداعياته الخطرة على المنطقة التي تركت أثراً سلبياً في حركات الاعتراض السياسي.
يموضع الكاتب الربيع العربي الذي انطلق من تونس، ضمن الموجة الخامسة للتحول الديموقراطي في العالم الذي بدأ أولاً في أوروبا الجنوبية (البرتغال واليونان وإسبانيا) واتجه صوب أميركا اللاتينية وبعدها الدول الشيوعية في الاتحاد السوفياتي وشرق أوروبا الى أن أثّر بشكل عميق في شرق وجنوب آسيا.
يؤكد زيادة الصعوبات التي تشهدها «دول الربيع العربي» في المراحل الانتقالية. ويقدم مادة تحليلية/ مقارنة للكشف عن المشتركات بين الديكتاتوريات العربية ذات النظام التسلطي القمعي الذي أخفق في التنمية الاقتصادية. ويرى أنّ السبب الذي أخّر الاحتجاجات في بلاده هو «ترسيخ ذاكرة الخوف بعد أحداث الثمانينيات» قاصداً بذلك المعارك الضارية بين النظام والإخوان المسلمين. وإذ يعرج على نوعية الشعارات التي رفعتها حركة الاحتجاج في سوريا إبان الحقبة السلمية، يشير على عجالة الى العوامل الاقتصادية المفجرة لـ «الثورة» في المناطق الطرفية التي تعرضت للتهميش والإهمال. وقد أعادنا الكاتب الى أطروحة محمد جمال باروت الهامة «العقد الأخير في تاريخ سورية: جدلية الجمود والإصلاح» حيث درس المؤثرات الضارة للخيارات الاقتصادية الليبرالية الجديدة التي همشت الأطراف لصالح المركز.
يدرس الكاتب جذور التحول في تشيكوسلوفاكيا كأنموذج في أوروبا الشرقية، وسوريا كأنموذج ثانٍ في دول الشرق الأوسط. ينظر في عوامل التشابه والاختلاف، ويتحدث عن كيفية إفادة الدول العربية من تجارب الديموقراطيات في العالم. ويخلص الى أنّ نجاح التجربة التشيكية أتى من مستويين: الأول هو التحول اللاعنفي في عهد الحزب الواحد الشمولي الى التعددية السياسية؛ والثاني الانفصال «السلس» عن سلوفاكيا من دون المرور بحروب عرقية أو إثنية كما حدث مع يوغوسلافيا السابقة.
يبرز زيادة نقاط الشبه بين النظامين التشيكي والسوري. وبعد إجراء المقارنات، يخلص إلى «تحول الحزب (البعث) الى مؤسسة بيروقراطية حكومية؛ وللمفارقة هذا ما أعاق مأسسته وأفقده قيادته العقائدية والسياسية. فقد جرى المزج بين دوره كحزب سياسي وبين السلطة، وكلا المفهومين أُدمِجا في مؤسسات الدولة التي يجب اعتبارها مفهوماً منفصلاً تماماً عن مفهومَيْ الحزب والسلطة اللذين يخضعان للتغيير الدوري».
يقارن صاحب «صنع القرار والسياسة الخارجية في سوريا» بين «ميثاق 77» الذي وضعته الحركة الاصلاحية التشيكية وأعلنت عنه في اليوم الأول من عام 1977 وطالبت فيه الحكومة التشيكوسلوفاكية بضرورة الالتزام بالاتفاقيات الدولية الخاصة بحقوق الانسان التي وقعت عليها، وبين بيان لـ 99 مثقفاً في سوريا (الصادر في 27 أيلول/ سبتمبر 2000) الذي كان همّه موضوع حقوق الانسان أيضاً، داعياً السلطة من دون أن يسميها الى إلغاء حال الطوارئ والأحكام العرفية وإصدار عفو عام عن المعتقلين السياسيين ومعتقلي الرأي وإرساء دولة القانون وإطلاق الحريات العامة والاعتراف بالتعددية السياسية والفكرية.
يعتبر الكاتب أنّ «إعلان دمشق» (2004) شكّل الأرضية لولادة المعارضة السورية المنظمة بعد حملة اعتقالات وقمع تعرّض لها واضعو بيان 99. إلاّ أن السلطة كررت ما فعلته قبل أربع سنوات، مما أدى الى تعريض الاعلان لهزة قوية إثر اعتقال أبرز رموزه الفاعلين والمؤثرين.
يبيّن زيادة «الفروقات الجوهرية» التي يُتاح من خلالها تعليل التجربة السورية وتطورها ببدايات شبيهة لمرحلة التحول الديموقراطي في تشيكوسلوفاكيا. ومع الاقرار بالخصوصيات التي تميز كل دولة على حدة، تتحكم فروقات أساسية بالتجربتين من بينها أنّ الحزب الشيوعي الحاكم ظل حزباً سياسياً يعمل بشكل مؤسسي، في حين تضاءل دور حزب «البعث» وقيادته السياسية الى أن انتهى ليصبح مجرد جهاز تبريري لقرارات القائد؛ ولا وجود للعامل القومي في جميع دول أوروبا الشرقية بالحدة ذاتها الموجودة في دولة مثل سوريا. وأخيراً، يشكّل التجانس العرقي والإثني والطائفي عاملاً مهماً في تخفيف حدة النزاعات بين النخبة الحاكمة والمعارضة السياسية.
يفصل الكاتب الحديث في «العدالة الانتقالية» مبيناً الخطوات الآيلة لإرساء الانتقال الديموقراطي الآمن. يحدد أبرز مقوماتها القائمة على: إنشاء لجان تقصي الحقائق، ورفع الدعاوى القضائية للتصدي لانتهاكات حقوق الانسان، والتعويضات لضمان حقوق الضحايا، وإصلاح المؤسسات السياسية والأمنية، وإحياء ذكرى أحداث الماضي بغية التأسيس لما يمكن تسميته «الذاكرة الجماعية الرادعة». ويشير زيادة الى أنّ «سوريا المستقبل» ستواجه أربعة تحديات: الاصلاح السياسي والدستوري، والتنمية الاقتصادية، وتحديث الجيش السوري، والانعطاف في السياسة الخارجية. في نهاية الفصل الأخير، يقول زيادة إنّ «المعركة الحقيقية للسوريين هي استعادة الجمهورية». لكن في مطالعته السياسية/ الطوباوية المستقبلية، يصطدم الكاتب بالواقع الذي تعيشه سوريا اليوم.