حتى فترة قريبة، أهملت دراسات العالم القديم تأريخ المفاهيم المتعلّقة بالمؤنث، خارج نطاق التاريخ الإغريقي والروماني القديم، كأنّه لا آثاريات أركيولوجية تخص المرأة في العصور القديمة السابقة للعصر الإغريقي. في كتابها «نساء بابل: الجندر والتمثّلات في بلاد ما بين النهرين» الصادر عام 2001 (دار قدمس ــــــ دمشق، ترجمة مها حسن بحبوح)، تميط زينب البحراني (1962) اللثام عن أدلّة بصرية ونصيّة صمدت في وجه الزمن في مناطق مثل بلاد ما بين النهرين ومصر والأناضول وإيران وسوريا.
أدلّة تشكّل سجلّاً ضخماً لمدوّنات تاريخية تتعلّق بصورة المرأة في الشرق الأدنى القديم عبر فهرسة نماذج من التصاوير الأنثوية، أو صورة المرأة العارية في نقوش الأختام، ومرجعيات أخرى. وتلفت أيضاً إلى أهمية النصوص السومرية القديمة في موضوعة الجنسانية أو الجندر، إذ وجدت فيها بعض الدراسات مجالاً حيوياً لقراءة وتفكيك التعبيرات المجازية الإيروتيكية. وتجاوزت الدراسات الحديثة التوثيق النسوي نحو مقاربات أكثر تنوعاً عبر فحص البنى الاجتماعية للجنس «الجندر» ومواقع تقاطعها مع التراتبيات الطبقية، أو مع الاختلاف العرقي، وصولاً إلى تمثّلاتها البصرية في الدراسات الاستقصائية الخاصة بالتراكيب الثقافية للأنوثة والذكورة.
نحن إذاً إزاء دراسة تاريخية تتكئ على قراءة عميقة لتاريخ الفن في تقصّي مفاهيم الأنوثة التي كانت سائدة في المجتمع البابلي. ووفقاً لما تقوله زينب البحراني، فإن الكتاب الذي انتقل أخيراً إلى العربية، يعُنى بالمرأة «بما هي إسقاط للفانتازيا الثقافية، ومفهوم مركّب للأنوثة خاص بالمجتمع البابلي، من دون أن يهمل مناقشة الذكورة، بما أنّ القطبية الثنائية كانت سائدة في التمثلات البصرية عبر تاريخ بلاد ما بين النهرين».
تعتمد عالمة الآثار العراقية وأستاذة الفنون القديمة وعلم الآثار في «جامعة كولومبيا» في مقارباتها على المعطيات الجديدة للدراسات النسوية التي تنفتح على حقول معرفية أخرى، تتجاوز «اختراق جدار الصمت» الذي وسم الموجة الأولى من هذه الدراسات. تنشغل الباحثة بالنظريات النقدية المعاصرة التي تتناول الجندر سيميائياً، وتفكّكها استناداً إلى كتابات جاك دريدا وسواه من أجل تركيب المعنى والقيم، بالإضافة إلى النقد التاريخي والتحليل النفسي، وتالياً تقويض النسخة الأولى منها، ومواكبة المنهجية الجديدة، خصوصاً العلاقة بين نظريات ما بعد الحداثة وما بعد البنيوية والنسوية. هكذا تخضع النصوص والتصاوير القديمة لقراءات مغايرة، انطلاقاً من الجسد والعري.
وترى أنّ تلك التصاوير ليست تسجيلاً مباشراً لحقيقة موقع المرأة وموقع الرجل، بقدر ما هي تراكيب بصرية للمُثل الخاصة بالجسد في مجتمع ما بين النهرين؛ إذ ينبغي دراسة الجسد بوصفه رمزاً تمثيلياً، وليس بوصفه مجرد انعكاس للأجساد الحية الحقيقية في العصور القديمة.
فقد كان يجري دوماً إحداثه من خلال تصوّرات عن الجنس والجندر، وثنائية العقل والروح، وتالياً، نحن بصدد «تحليل إنتاج الأعراف المجندرة، وليس انعكاس الواقع المعاش». والتمييز هنا يبقى في بعده البصري، وليس الأيديولوجي لجهة الخضوع والسيطرة.
وتنبّه الباحثة إلى أنّ الأدبيات السومرية تفتقر إلى مفردة العري، على عكس الإشارات الصريحة للأعضاء التناسلية التي تحتشد بها النصوص السومرية الايروتيكية. أما بالنسبة إلى التماثيل، فقد كان النحّاتون في عصر الآلهة يركزون على قدرات الخصوبة في المقام الأول، فيما يهملون تفاصيل الرأس والأطراف. سيطرأ تطوّر واضح في العصور اللاحقة على هيئة التمثال (بغايا بابل)، وسيرتبط العري الأنثوي بالجنسانية، فيما يرتبط العري الذكوري بالورع الديني وبالذكورة البطولية الخارقة للطبيعة، ولأغراض أيقونية تدل على البطولة أو الهزيمة والموت. هذه التمايزات ـــ وفقاً لما تقوله زينب البحراني ــــ تنطوي على نظرة متبدّلة، وإن كانت الصورة الشائعة تضع المرأة في إطار السلبية، في حين أن الرجل كائن اجتماعي فاعل يمتلك إرادة
فردية.
وفي «ذلك الموضوع المبهم للرغبة: العري والفتشية والجسد الأنثوي» شرح ونسف لخطاب المركزية الأوروبية الذي حاول منح تماثيل العاريات الإغريقيات صفة فنية خالصة، بينما دأب الخطاب نفسه على تفسير تماثيل الشرق الأدنى بوصفها موضوعات فتشية لمفهوم الخصب، عبر مناقشة تصاوير أنثوية لنساء تاريخيات مارسنَ أدواراً خاصة في مجتمعاتهن، مثل أفروديت الشرقية (الهلنستية)، وعشتار، والمرأة المُغوية، والأم، تظهرهن في سياقات سردية مغايرة، رغم المحاولات الكولونيالية «طمس مدوّنات الشرق الأدنى في الدراسات البحثية المعاصرة». وتفيد سرديات تلك الحقبة بوجود عدد لا يحصى من التماثيل الأنثوية، أو بورتريهات لطقوس نذرية، وأخرى تعبّر عن الجسد والهوية، فيما تحتل «عشتار» مكانة استثنائية، نظراً إلى شجاعتها وقوتها الذكورية المستمدة من شخصيتها الخنثوية الثنائية الجنس، من جهة، والإغراء والقدرة على القتل والتدمير من جهةٍ ثانية، بمعنى آخر «توليفة غامضة من الجمال الأنثوي والعنف».
ولكن ما هي تصوّرات المخيّلة الاستشراقية للنساء البابليات؟ عدا كتب الرحلات إلى الشرق، ورسوم المستشرقين، أسست المكتشفات الأثرية للتماثيل الأنثوية في مصر وبلاد ما بين النهرين موقعاً فريداً «ألهب تقاطع الماضي التاريخي مع البعد الجغرافي فيه خيال الثقافة البصرية الأوروبية»، كذلك أيقظت اللقى الآشورية في منتصف القرن التاسع عشر لدى الأوروبيين الشهوة الاستعمارية؛ إذ جرت معادلة الشرق بالجنسانية، وبالأنوثة، وبالمادي والشهواني، ووُصِف الشرق بالجسد الأنثوي المُتاح في انتظار أن يمتلكه الرجل الأوروبي المتمدن والمُمَدِّن في آنٍ واحد.
وتستشهد الباحثة بمجموعة كبيرة من اللوحات الاستشراقية التي أرست نظرة مستقرة لمجتمع الحريم، على نحوٍ خاص، هذا المجتمع القائم على الإغواء والشهوانية المفرطة. وإذا ببابل مدينة للفسق. أما سميراميس فتظهر كشخصية أنثوية غريبة «تحمل شحنة إيروتيكية
عالية». واستناداً لما تقوله ريتا لويس، فإن الفن الاستشراقي كان يضع المتعة البصرية الذكورية في المقام الأول، لارتباطها بالهوية الإمبريالية. وكان لمكتشفات بابل الدور الحيوي في إذكاء المخيّلة الشعبية الأوروبية، بوصفها مكاناً للبغاء والفجور الديني، وتمثّلات الشرق في المجتمع الأوروبي في القرن التاسع عشر، على عكس ما كان حاصلاً في الواقع، ذلك أنّ القوانين التي تتعلق بالنساء تجيز حرية واسعة لهن، لم تكن متاحة في الفترة نفسها للنساء في بلاد الإغريق وروما القديمة.