رغم أنه بدأ كتابة الشعر في ستينيات القرن الماضي، إلا أن ياسين طه حافظ (1936) ظل أقرب إلى معجم السيّاب والبيّاتي والملائكة الذين صنعوا ريادة شعر التفعيلة. هكذا، تأرجحت لغة الشاعر العراقي المخضرم بين زمنين تأسس فيهما الشعر العراقي الحديث، بينما راح يُراكم تجربته الطويلة التي سار بها إلى جوار الأجيال التالية أيضاً، إلا أنه حافظ على مسافةٍ، تقصر حيناً وتمتدّ حيناً آخر، مع ما كان يستجدّ في ممارسات الكتابة الشعرية وتقنياتها.ديوانه الجديد «سمفونية المطر» (دار المدى)، وهو الحادي والعشرون له، هو الطبقة الأحدث لهذه التجربة التي بدأت بباكورة «الوحش والذاكرة» (1969)، واستمرت من دون ضجيج أسلوبي أو انعطافات كبرى. التغيرات حدثت بالتأكيد، لكنها تغيراتٌ طفيفة حدثت ببطء وتأنّ داخل نبرة الشاعر التي استثمر فيها إرث القصيدة العمودية من دون أن يقلّدها، وسمح للحياة العراقية اليومية، وعذابات الفرد والجماعة، بأن تتسلل إلى قصائده التي تأثرت بدورها بثقافته الأجنبية الواسعة، وقراءاته وترجماته المتعددة. اشتغل صاحب «ديوان فاطمة» على القصيدة الطويلة، إلى جانب قصائده الأخرى.

في الحالتين، كنا نجد اللغة التي تمزج الانطباعات الشخصية بسيرة العالم والموجودات. هناك دوماً حركة أفكار خفية ومواربة داخل السطور والاستعارات والأسئلة، وهو ما يذكّرنا بتجارب عالمية تحدثت عن «أرض يباب»، وعن ميثولوجيات وفلسفات وجودية لا ترى خلاصاً في الحياة. «فاسدٌ حولي كل شيء»، يقول الشاعر في نهاية أحد المقاطع. خلاصاتٌ قيامية وتراجيدية مماثلة نعثر عليها في صفحات أخرى عديدة: «كلّ الأمجاد مُجهَضة/ والأرواح الذابلة مثل خرقٍ ماحلة/ والخاسرون ينسحبون بعيداً عن النظرات/ ها نحن بقية الحشد المنكسر/ نلوذ بالمكامن الظليلة/ ننتظر الرحمة مشدودين إلى/ يُتمٍ سحيق في العالم/ نرتجي نظرة صافية/ عزاء أخيراً عن خسارة أرواحنا/ عن الفقد الفاجع للحياة».
الديوان مكتوب بروحية السمفونية الموزعة على مقاطع مرقّمة تبدأ بتمهيد نثري عن امرأة فائقة الحضور، وتنتهي بخاتمة نثرية نكتشف فيها أنّ الشاعر كان يخاطب الحياة ذاتها، وأن المرأة جزء من تموّجات رموزٍ ومفرداتٍ وأسئلة تتوالى في امتداح تجربة العيش وفي رثائها، حيث تتجاور مشهديات جماعية مثل «أعلامٌ خرقاءٌ تتخبط في الريح/ تُغيظُ الزرقة تربكُ صفو الله/ وعساكر تختزن الثكنات وأوبئةٌ/ طيَّ مكاتب لامعةٍ وصيارفةٍ/ سرّاق قبور، تجار سلاحٍ وحشيش/ ومخاليقُ مهترؤون تلفظهم ورشٌ ..»، مع حالات عزلة مثل «في أقصى البلدةِ، بين بيوتٍ مقفلة الأبواب/ وجهٌ منكسرٌ غاضب/ عيناهُ تريدان وتتحسران/ ما جدوى أفراحٍ تعبره مثل غريبْ/ ما جدوى الجسد الباذخ/ يأتي يمضي قربه، ما جدوى أكوام بساتينْ/ رجلٌ مهموم/ يستاءُ/ يُطفئُ سيجارته ويقوم». الرؤية الكابوسية حاضرة بكثافة في اللغة وفي النظر إلى الذات وإلى العالم، حيث الرجال «لحومٌ حُشرت ببناطيل»، والنساء «يبعنَ أمام الله الأجساد»، بينما الشاعر يواصل دسّ نظرته السوداوية في الكلمات. كأنه يرثي تجربته وحياته الغارقة في حياة الجموع، ويعتبر نفسه خائناً للحياة إذا لم يكتب «كيف عاش الجمالُ حياتَه المحزنة».



يمكنكم متابعة حسين بن حمزة عبر تويتر | hbinhamza@