لا تغيب الهندسة عن أعمال نديم كرم (1957). معرضه الجديد «حديقة الحيوانات الحَضَرية» الذي تستضيفه «غاليري أيام» في بيروت، يضمُّ طبعات مصغّرة أو بالحجم الطبيعي من أفكاره المعمارية، التي يمكن أن تسمح بمقترحات نحتية على شكل مجسَّمات معدنية أو كريستالية، ويمكن أن تتخلّى عن مذاقها الكتلوي لمصلحة أشكال مماثلة للمجسمات، لكنها منجزة على خشب أو قماش.
يستخدم المهندس والمنظِّر والفنان اللبناني وسائط مختلفة للوصول إلى معادلة تتحقق فيها ما يمكن أن نصفه بـ «الأحلام المعمارية» التي تنطوي على تحديات مختلفة للعمارة التقليدية والمعاصرة أيضاً، وتتضمن مجازفات خطرة تأخذ الهندسة الصارمة إلى حافات اللهو واللعب والفانتازيا. لقد سبق للمهندس المعروف عالمياً أن عرض أعمالاً مشابهة في بيروت وطوكيو ولندن ودبي وباريس، وباتت أشكاله الحيوانية، وخصوصاً «الفيل» أشبه بشيفرة أو رمز فني.
الفيل الذي تكرر في معارضه السابقة، هو الكائن الأكثر حضوراً في معرضه البيروتي.
الفيل موجود في 8 لوحات بقياس موحّد تطلّ على مجسمات وأشكال هندسية مصفوفة تحتها مباشرةً، ثم نجده مرسوماً على نسخة تجارية من لوحة أوروبية كجزء من سلسلة «المحارب الثقافي»، حيث يمتطي هانيبال فيلاً، ويحمل في يده صولجاناً، بينما على مدخل الغاليري وُضعت غيمة معدنية تذكرنا بمشروعه الضخم الذي أنجزه في دبي.
المجسمات في الداخل متجاورة مع لوحات عادية منجزة بالروحية الفانتازية ذاتها، إذْ تختلط الأشكال الحيوانية مع العمارة المدينية وحياتها اليومية. الهُجنة بين حيوانات تبدو كأنها مجلوبة من عصور سابقة، وبين أنماط الحياة المعاصرة، تصنع نوعاً من السريالية المحببّة التي تقرّب جزءاً من المعرض إلى رسوم الأطفال وخيالاتهم غير المحدودة. هناك مذاقات مستقبلية في هذه الحيوانات التي يضعها الفنان في بيئات حضرية ومدينية. كأن التضاد المطلوب إظهاره هو جزء أساسي في اللعبة التي يخوضها الفنان ببراعة واضحة.
بطريقة ما، تبدو هذه الأشكال والأفكار مثل بقايا أو زوائد فائضة عن الممارسات المعمارية والهندسية، أو أنها أحلام تنبت على هامش التجريب والاختبارات الكبرى التي يخوضها نديم كرم في حقل العمارة. صاحب أتيليه «هابسيتوس» يسعى إلى خلق ثيمات ومفردات حَضَرية موازية ومكملة لتراكم العمارة المدينية المعاصرة، أو تصلح لتعديل التطرّف التجريبي فيها. هكذا، يصبح حضور الحيوانات نوعاً من خلط الأزمنة والحقب التاريخية. زوار المعرض أنفسهم يصبحون جزءاً من هذا الخليط الذي يدعوهم إليه نديم كرم، كي يختلطوا بالانطباع العام الذين ينبغي أن يصنعه المعرض في ذاكرتهم. انطباعٌ مماثل حدث قبل سنوات حين وضع كرم مجسماته المستقبلية في ساحة الشهداء، التي لا تزال بعض ملامحها وأبنيتها تفوح بذكريات الحرب الأهلية وأنقاضها، بينما كان في استطاعته إلغاء هذه المفارقة الزمنية في أعمال ومشاريع عرضها في استراليا وطوكيو، وبدت منتمية إلى زمن العرض المديني وذائبة فيه أكثر. المجسمات الكريستالية هي طبعاتُ من نوع آخر للألعاب الحَضَرية التي نجد مذاقاتها في اللوحات والمجسمات المعدنية. كأن كل ممارسة من هذه الممارسات تُرينا الأفكار نفسها بتقنيات مختلفة.
هناك مهارات هندسية ومعادلات رياضية وفراغية صعبة مدسوسة في هذه الأعمال التي تبدو خفيفة وطفولية. إنها نسخٌ مصغّرة من مشاريع نديم كرم الضخمة التي يعرضها عادةً في أماكن عامة وواسعة. كأن المهندس اللبناني ذا التجربة المتفردة، يصنع نماذج صغيرة يمكن عرضها في فضاءات ضيقة، بينما يفكر الزائر في أنّ الحيوانات والمجسمات ستضجر بعد قليل، وتخرج إلى الهواء الطلق، وتختلط مجدداً بالأبنية المعاصرة التي تحيط بالغاليري القابعة في وسط بيروت.

«حديقة الحيوانات الحضرية»: حتى 10 تشرين الأول (أكتوبر) المقبل ـــ «غاليري أيام» (وسط بيروت). للاستعلام: 01/374450

يمكنكم متابعة حسين بن حمزة عبر تويتر | @hbinhamza




شخصيات في رواية

تبدو أشكال نديم كرم كأنها شخصيات في رواية، لكنها رواية هندسية ومدينية يسعى صاحبها إلى أنسنة الحياة الحديثة، وخلق نوع من السخرية والفكاهة بخلط أزمنة قديمة مع الواقع الراهن. الأعمال الضخمة التي سبق أن عرضها في فضاءات عامة، تتحول هنا إلى نماذج مصغّرة توفر فرصة للمتلقي كي يصنع انطباعات حميمة وقريبة مع أفكار الفنان، بينما المجسمات الأضخم على مدخل الغاليري هي جزءٌ من معرضه القادم في دبي نهاية الشهر الجاري.