بغداد | إذا كان الشهر الماضي قد شهد رحيل ثلاثة من الروّاد في الفكر والشعر والسرد (فلك الدين كاكائي وشيركو بيكه س وعبد الستار ناصر)، فإنّ أيلول يشهد خسارة جديدة للثقافة العراقية، برحيل ناظم رمزي (1927ـــ 2013) في مغتربه في لندن.
المصمم والخطّاط والفوتوغرافي والرسام اشتهر بتوثيق الحياة العراقيّة فوتوغرافيّاً منذ الخمسينيات، مستغرقاً في رصد يومياتها، وهو الدؤوب على تطوير فن الطباعة وحروف الطبع، فضلاً عن تصميمه الكثير من الكتب والمجلات والملصقات، منها مجلّتا «فنون عربيّة» و«آفاق عربيّة». لعلّ أحد أهم انجازاته إصداره طبعة جديدة من القرآن اشتغل على زخرفتها وإخراجها أعواماً، فضلاً عن كونه صاحب مؤسّسة «رمزي» للطباعة، التي كانت ورشة لإنتاج الجمال وإثارة الحوارات عن الفن والثقافة والسياسة العراقية، بل حتّى منبراً لانطلاق التجمعات الفنية الجديدة. للراحل مؤلفات عديدة أبرزها: «العراق: الأرض والناس» (لندن ـ 1989)، و«من الذاكرة» (بيروت ـ 2008)، و«العراق: لقطات فوتوغرافيّة لبعض ملامح الحياة في القرن العشرين» (بيروت ـ 2009)، وآخرها كتابه «جولتي مع الكاميرا» (عمان ــ 2010). ميزته أنّه متعدّد المواهب، متطلّع دائم إلى التحديث، حتّى وهو يلتقط صورة لزقاق بغداديّ قديم تسير فيه مجموعة صبية. يبرز بمهارة حدث التصوير المنتقل بين مساحتين متنافرتين: ظلّ وضوء. تجده أيضاً يحتفي بالملامح والجزئيات في صوره، يركّز على الإنسان ودرجة قهره، وربما فوجئ أحياناً بقدرته على اقتناص لقطة لفتاة يستعد وجهها لإطلاق ابتسامة كأنّه يكتشف سرّ بهجتها. صحيح أنّ صوره تقول الكثير للآخر غير العراقي، لكنّها مشبعة ببيئتها وبمحليتها، حيث رائحة المكان تفوح من خلفيات الأعمال، ولباس البغداديّين القدماء من بسطاء وفلاحين حاضر في أعماله المتنوّعة.
ولعلّ ما قيل بحقّه يلخّص جزءاً من مكانته في تاريخ الثقافة والفن العراقيين. يذكر عنه الشاعر والفنان محمد سعيد الصكار: «ناظم رمزي لا يوحي هذا الاسم بأي انتماء عرقي أو ديني أو طائفي. لم يكن همّه سوى أن يكون «رمزي». بهذا الاسم، دخل دفاتر تواريخ كان له فيها الحضور البهي. هو المصوّر المرهف، والرسّام الذي يبدع بصمت، ورسّام الكاريكاتور الحاذق، ومؤسّس أكبر دار عصريّة للطباعة في العراق».
وممّا كتبه الناقد الراحل جبرا إبراهيم جبرا، وورد أخيراً على ظهر كتاب رمزي«من الذاكرة»: «كثيراً ما أردت أن أكتب عن هذا الرجل الذي ما أحسب فنّاناً عاش لفنّه بحرارة أكثر منه. كان يوقفني عمّا أريد ويجبرني على الاستجابة لرفضه. رمزي من شأنه أن يسلط الأضواء على الفنّانين الآخرين، بكلّ ما تتيحه له وسائله في التصوير والطباعة، ويرفض أن يسلط عليه أحد الضوء».
أمام هذه الخسارات، يبقى السؤال: هل يستطيع العراق بدورة العنف الدائرة فيه أن يعوّض هذه الأسماء بطاقات جديدة في ظل غياب التخطيط والتنمية، ورغبة الشباب العراقيّ في ترك البلاد والقفز من سفينتها التي تبحر في مياه المجهول؟