بعد مسيرة نقدية طويلة تحت اسم «يمنى العيد» الذي اختارته لتوقيع مقالاتها ومؤلفاتها، تعود الناقدة اللبنانية إلى اسمها الحقيقي حكمت المجذوب الصبّاغ المسجّل في بطاقة الهوية. كتابها «أرق الروح» (دار الآداب) هو محاولة لكتابة أجزاء ومحطات من سيرة طفولتها ونشأتها في صيدا، مروراً بدراستها الثانوية والجامعية وانتقالها إلى بيروت، وعودتها مجدداً إلى صيدا مديرةً لثانوية البنات، ثم تدريسها للنقد الأدبي في الجامعة اللبنانية، وانتهاءً بالأسئلة الراهنة التي «تؤرق» الروح والذاكرة، وتعيد الصراع بين اسميها إلى الواجهة، ليصبح سبباً لإنجاز هذه السيرة التي تتلكّأ أو تتوقف عند أبواب اسم «يُمنى»، بينما تسترسل في توثيق الحياة والأفكار والأحداث التي عاشتها «حكمت».
كأن يمنى العيد تعيد الاعتبار إلى ذلك الاسم، الذي كرهته لأنه يصلح للذكور والإناث، والذي اضطرت إلى استخدامه في الدوائر والمؤسسات الرسمية فقط.
«من أنا؟ هل أنا حكمت أم يمنى». بهذا السؤال يبدأ الكتاب. سؤال وجودي يولّد أسئلة أخرى عن حكمت التي بقيت أسيرة «زمن مضى»، وظلت «راكدةً تحت جلد يمنى». السؤال الذي يبدو مثل جرح شخصي قديم، يُطالب صاحبة الاسم المكتسَب بوضع اسمها الأصلي في الضوء. كأن الكتابة رحلة إلى فردوس الطفولة، أو لعلها نوعٌ من «العود الأبدي» من أجل الحصول على تكفير ما تجاه الاسم الأول، الذي تعرض للإهمال والإقصاء مقارنة بالاسم الذي لمع على أغلفة الكتب وصفحات المجلات والصحف. كأن يمنى العيد تتصالح مع اسمها القديم، وتمنحه الفرصة ليعيش حياةً كاملة في كتاب مطبوع. الكتاب إذن هو حكاية حكمت الصباغ قبل أن تحظى باسم يمنى العيد. هكذا، تعود إلى مسقط رأسها صيدا، وإلى حي رجال الأربعين الذي قضت طفولتها فيه. إلى الأمكنة والتفاصيل التي نجحت في التحرر من قيودها، والذهاب إلى بيروت بحثاً عن فضاءات وطموحات أوسع. سنعرف أن حكمت أوشكت على الموت مرتين، وأنها أصيبت في قدمها برصاص الجنود الفرنسيين أثناء تظاهرة مدرسية تطالب بإطلاق سراح رجال الاستقلال سنة 1943. وأنها عاشت في بيئة ذكورية، ولكن ذلك لم يقف في طريق تعليمها. التعليم الذي أخذها لاحقاً إلى بيروت لاستكمال دراستها الثانوية، ثم دراسة الأدب العربي في الجامعة اللبنانية.
في الأثناء، تمر تفاصيل عن الحب والزواج، وعن حصولها على الدكتوراه من السوربون وهي أم لثلاثة أطفال، عن انتسابها إلى الحزب الشيوعي اللبناني، وعن أهمية الجامعة كبيئة حقيقية للمواطَنة العابرة للطوائف، عن النقاشات الثرية مع حسين مروة ومهدي عامل. عن لقاءات نادرة مع عبد الله العلايلي وسعيد عقل وعبد الوهاب البياتي وفيروز. عن الحقبة الذهبية لبيروت الستينيات وأوائل السبعينيات. عن بدايات النشر في مجلة «الطريق» مع محمد دكروب. عن سنوات الحرب الأهلية والاجتياح الإسرائيلي. عن العودة إلى صيدا كمديرة لثانوية صيدا للبنات، حيث ستخوض نضالاً من نوع آخر في التعليم والأفكار اليسارية والتقدمية. سنعرف أنّ مهدي عامل وحسن عبد الله كانا معلمين في المدرسة ذاتها، وأنها أقامت ندوات شاركت فيها أسماء مثل: صادق جلال العظم، ويعقوب الشدراوي، وكاتب ياسين.
كانت صاحبة «في معرفة النص» تصنع اسمها في ذلك الوقت، وتضعه في الصفوف الأولى لكتّاب ونقاد وفناني تلك الحقبة، لكن كل ذلك مؤجَّل أو مستبعد الآن من لعبة السرد الممنوحة بطولتها لحكمت الصباغ. هناك دوماً رغبة خفية بإيقاف السيرة عند الحدود التي تبدأ منها سيرة يمنى العيد ككاتبة وناقدة. ما هو مطلوب الآن هو أن تفكر بكونها كانت «محظوظة بسبب الحداثة الوافدة... وبسبب صدفة زمنية هي تاريخ ولادتي وزمن دراستي»، وأن تعترف بأنها واصلت «الهرب من زمن حكمت»، وأنها تعبت من هذا الهروب، وتريد أن تنتهي من تمزّقها بين الاسمين. هناك مذاق باشلاري في تفقّدها لـ «جماليات المكان» الأول، وفي استعادة غبطة المنزل العائلي والبحر والبساتين والأسواق القديمة والأبواب التاريخية. ما من تراتبية زمنية في سرد هذه السيرة، التي لا تزال ناقصة، ولا يبدو أن التوثيق هو الهدف الأساسي منها. ثمة خيوط روائية في الكتابة التي تتخفف فيها صاحبة «تقنيات السرد الروائي» من تركيزها النقدي والاصطلاحي الذي اعتدناه في مؤلفاتها الرصينة. يختلط الحنين إلى الماضي بنبرة وجدانية ورومانسية، بينما تتراءى سيرة مواربة لصيدا وبيروت ولبنان منذ أواخر زمن الانتداب إلى الزمن الحالي. إنها سيرة حقيقية، لكن استعادتها بعد زمن طويل يعرّضها لفعل التذكر الذي «لا يخلو من تخييل»، والذي تضيع فيه الحدود بين يُمنى وحكمت، إلى درجة أنها تتساءل في الصفحات الأخيرة من الكتاب: «من يكتبُ هذه السيرة؟».

يمكنكم متابعة حسين بن حمزة عبر تويتر | @hbinhamza




المناضلة التربوية تعود إلى مدرستها الأولى

أهدت يمنى العيد سيرتها إلى «صيدا المدينة التي رأيت فيها النور». إهداءٌ يعزز فكرة أن السيرة ذاتها ممنوحة لاسمها الأصلي الذي انسحب إلى الخلف، تاركاً لاسم الناقدة والكاتبة أن يكون في الصدارة. لا شك في أنّ هناك الكثيرين ممن يعرفون هذا السر، وخصوصاً طالبات «ثانوية صيدا للبنات» التي شغلت فيها حكمت الصباغ منصب المديرة، وعملت على ترسيخ مفاهيم الحرية والمسؤولية والمواطَنة الحقيقية. وهو ما حدث في عملها كأستاذة في الجامعة اللبنانية التي كانت مصهراً للجماعات والطوائف اللبنانية برأيها، قبل أن تأتي الحرب الأهلية، ثم سنوات السلم الأهلي، وتتفشى الانقسامات المجتمعية في قاعاتها. حكمت الصباغ هي تلك المناضلة التربوية والأستاذة الجامعية التي علمت طلابها تقنيات القراءة، وشجعتهم على أن يكونوا نقاداً بطريق مختلفة. هي الزوجة والأم والمواطنة التي حلقت بجناحين قويين في عالم الأدب والنقد، التي ساهمت بقسطها في صناعة صورة بيروت وأسئلتها الطليعية. هي حكمت الصباغ التي تزامنت فكرة إحياء اسمها مع تكريم مميز ليمنى العيد في مسقط رأسها. تكريمٌ خلط الحنين مع الاعتزاز بإطلاق اسم «حكمت الصباغ» على الثانوية التي درست فيها، وعملت مديرةً لها.