القاهرة | تفاجئ رواية «نساء الكرنتينا» (دار ميريت ـ ٢٠١٣) لنائل الطوخي (1978) قارئها بالصدمات التي توجّهها إليه. تستعيد جملة من الأساطير وتعيد تفكيكها لتسخر منها، فالإسكندرية التي تمثّل فضاء النص، ليست المدينة الكوسموبوليتية التي نعرفها. إنّها مدينة تؤسّس أسطورتها على حكايات البشر المنسيين الذين يصنعون من هوامشهم كافة المتون، وأسطورة الغرام التي جمعت أنجي وعلي لن تستمر إلا وهي تتغذى على فعل القتل الذي يمارس بخفّة يفقد معها طابعه الميلودرامي وينزل بقداسة الدم إلى حد الاعتياد.
ينسج الكاتب المصري لغة خفيفة ومرحة، تعيد توليف أساطير الحياة اليومية بالمعنى الذي قصده رولان بارت في إشاراته إلى سطوة التلفزيون والإعلان والدراما. هذه المواد يؤهلها الطوخي لتكون خامات سردية، تتداخل أيقوناتها مع شخوص الأبطال الذين ينتهي بهم المصير إلى «الكرنتينا» المكان الذروة الذي تمارس فيه الأفعال الخارقة للعادة لتفقد سحرها، لكنّها تمدّ المدينة المتمردة بدماء جديدة تغذي حضورها في التاريخ. يغيب الحد الفاصل بين الواقع والفانتازيا في المنمنات السردية التي يربطها نائل بأسطورة علي وإنجي التي تأتي من مستقبل يتجاوز اللحظة بنحو نصف قرن، لكنّه يولد منها. ما يميز الرواية أنّ صاحبها لا يبشر بقضايا كبرى، لكنه في الوقت نفسه غير قادر على إزاحتها تماماً. الإسلام السياسي يصنع أيضاً أساطيره كطرف أصيل في تحالفات تجمع بين رجال السلطة والمال، لكنّ الطوخي لا يبدو مشغولاً إلا بالحكي وحده كطاقة جبارة. يرى الطوخي الذي يعمل مترجماً وصحافياً في «أخبار الأدب» القاهرية أنّه بدأ كتابة روايته متحرراً من ولعه بالإسكندرية. كان يريد فقط مدينة كي يهاجر إليها بطلا الرواية علي وإنجي.
عندما فكر الطوخي في الإسكندرية، وجد أنّها قد تصلح لبعض الألعاب. بدأ يدوّن في ذاكرته قصص النضال التي يرويها الإسكندريون عن مدينتهم، يتخيلها بتفاصيل مختلفة. ثم راح يصوغ حكاية الإسكندرية من جديد. حكاية ليست متخيلة تماماً ولا حقيقية تماماً.
فكّر صاحب «الألفين وستة» خلال عملية الكتابة في اختراع شعب جديد للإسكندرية، شعب أكثر إيماناً بمدينته وأكثر حماسة للدفاع عنها. كل هذا كان سهلاً لأنّ الإسكندرية مدينة يُروى عنها الكثير، من أول ريا وسكينة وحتى أسطورة خالد سعيد، أيقونة «ثورة ٢٥ يناير». إنّها مدينة تعطي بإفراط من الإسكندر وحتى عبد المنعم الشحات، ويضاف إلى ذلك بالطبع خواجات الأربعينيات الشهيرين. لم ينس الطوخي كذلك صورة الإسكندرية في دراما أسامة أنور عكاشة. يقول: «باختصار، كانت لديّ مادة خصبة جداً للتلاعب بها. مع تعمدي صياغة إسكندرية أخرى غير إسكندرية الاستشراقية المتوسطية المليئة بالخواجات والبحر. شكلت مدينة بعيدة عن البحر تماماً، مليئة بالدعارة والمخدرات والسلاح والسلفيين والأطفال القذرين».
بخلاف التلاعب بالأساطير، يلفت في الرواية هذا الاشتغال الذكي على مرونة اللغة اليومية في مصر وفائضها من المجاز، وهي ليست فصيحة ولا عامية، بل لغة صادمة بامتياز. يعتقد الطوخي أنّها لغته التي يتحدث بها قائلاً: «نعم كسرت المسافة بين لغة الحكي ولغة الكتابة. قررت أن أترك نفسي على راحتها وأنا أكتب. البنية العامة للعمل فصيحة مع انتهاكات عامية ضخمة»، مؤكداً احتقاره لتقسيم اللغات إلى فصحى وعامية، والهوس بتطهير الفصحى من العامية أو العامية من الفصحى. يقول: «أحتقرها لأنها مثل أي محاولة تطهير، عديمة الفائدة ومع ذلك عنيفة ومزعجة».
ومن اللافت كذلك أنّ الرواية تفادت الحكي عن ذات الكاتب وراحت لتأمل ذوات أخرى، وهي ميزة بحسب وصف الطوخي الذي ينفي أن يكون ضد الكتابة عن الذات. لكنه يحب أيضاً متعة حكي الحكاية. وهو الأصل القديم لفكرة السرد، القصة والرواية. «لا أتجنب الكتابة عن الذات، هناك تفاصيل كثيرة في الكتابة عن ذاتي وذوات من حولي. لكن ما يثير أعصابي أنني نادراً ما أقرأ رواية لأديب عربي ولا أجد فيها تفاصيل عن ذاته. نادراً ما أجد فكرة الحكاية المحكية لنفسها. هذا أجده فقط في الأعمال التجارية، تلك التي تعلي من شأن الحكاية، المتطهرة من نرجسية المبدع الذي يريد إدخال ذاته في الحكاية».
وعن تفسيره لفائض فعل القتل في الرواية، يشير إلى أنّ هناك شيئاً راسخاً في وعي الأشخاص، فـ«هم يريدون الخلاص من «هذا». «هذا» غير محدد. لكن يمكن تفسيره باعتباره القتل، الحرب الدائمة، العنف، البؤس، أو العداوة غير المفهومة. هذا لا يبدو في ردود فعل فورية على جرائم القتل، بل يبدو مع تقدم الأبطال في العمر، مع ضعف الذاكرة، ومع احتدام الصراع ومللهم منه. لا أعتقد أنّ هناك استمتاعاً بفعل القتل. أعني أنّه لا سادية هنا. بالعكس، هناك اضطرار له في أغلب الأحيان. هناك فقط عادية للقتل. بعض القسوة الخفيفة في النظر إليه، بعض المهنية والبلادة في التعامل معه. شيء مثل هذا».
لا يرى الطوخي أنّ روايته متشائمة بنتائج ما يجري في مصر من تحولات، فهو لم يكن يريد للمستقبل أن يتغيرّ عن الحاضر بشكل جذري، لأنّ الحاضر لم يتغير عن الماضي بشكل جذري. كان يريد أن يبدو الإحساس بالمستقبل خفيفاً ومظهرياً عبر مشاهد بصرية مثل مشاهد الأنفاق أو الحديث عن الصراعات العالمية، «لكنني كنت أريد للقذارة والفقر أن يظلا هما المهيمنين على المشهد. هذا منطقي. اسأل أي شخص، حتى من بين أكثر المتفائلين بالثورة، هل تتوقع أن يختفي البؤس والفقر بحلول عام 2100 في مصر؟ لا أحد يتوقع أن يختفي البؤس من العالم. هناك وعي بأنّ الفقر سيبقى، ومعه القمع لكن ربما يتغير شكله».



الرواية والفنون الأخرى

في حديثه عن النثر، يفخر نائل الطوخي بأنّه أصبح أكثر تسامحاً مع فنون أدبية يُنظَر إليها كفنون درجة ثانية. يقول: «في «نساء الكرنتينا»، استعرت بعض تقنيات السينما والدراما التجاريتين. إذا كنا نقول إنّ الرواية تستوعب كل شيء، فلماذا لا تستوعب هذه الفنون بداخلها؟ عندما بلغت هذه القناعة، بدأت أكتب وأنا أكثر ارتياحاً. في الدراما جزء من حياتنا أيضاً، وأحياناً تحاكي الشخصيات الإنسانية سلوكيات درامية. ومعظم بلاغتنا عن الحب مثلاً مأخوذة من الدراما أو من الأدب. الشعر والأغنيات وتصوراتنا عن الرجولة والأنوثة في الغالب مأخوذة من حكايات سمعناها، أي من نصوص وليس من الواقع. لذلك ينطق نصّ «نساء الكرنتينا» بقدرته على اتساع معنى «النصوص»».