Youtube | المجموعة مشتركة، تضمّ سوريين ولبنانيين وهذا ما لا يمكن لأحدٍ نكرانه. رجال بعصبات الحرب يشدّونها على رؤوسهم، وهي في ظاهرها كي يميّزوا أنفسهم عن الأعداء، لكنّ غالب الظن أنّ لها وظيفة سيكولوجيّة، هذا ليس موضعاً مناسباً لتفسيرها. في الفيديو على يوتيوب، يطلق المسلّحون النار بقسوة على جثث انتهت، يُقرّعون الموتى بشتائم لا يسمعونها. وفي أحد المشاهد، يجهزون على جريح، فيضعون حداً لآخر أمل لديه بالهواء. إنه مقطع مخزٍ، لا أحد يحبّ أن يكون في عالم يَقبل حدوثه. رغم ذلك، سمح كثيرون لأنفسهم بالاستفاضة في استغلال القتل وأنماطه. لدينا فريق لم يظهر فجأة، وكالعادة، تولى الحديث باسم الضحايا، كما في كل مرة.
عودة إلى المقطع. لقد كان واضحاً أنّ الوحيد الذي رفض حدوث الأمر برمّته، هو صاحب اللهجة اللبنانيّة الوحيد في المجموعة. إنّه الوحيد الذي يجوز الافتراض بأنّه من «حزب الله». وفي الصورة، هو الوحيد الذي لم ينزع إلى الثأر بل استاء من كونه شاهداً على حصوله. لذلك، يمكن الاستنتاج أنّه مقطع موجَّه إلى نوعين. في الكفة الأولى، اللبنانيّون والسوريّون الذين يستطيعون تمييز لهجة القتلة من لهجة الذي حاول ثنيهم، ويفترض أن هؤلاء، لن ينطلي عليهم عنوان الفيديو الخبيث على يوتيوب: «وحشية حزب الله مع الجرحى السوريين». والفئة الثانية التي قد تختلط عليها اللهجات، فتصدق أنّ الذين يطلقون النار هم من «حزب الله». إنه مقطع مؤلم أولاً، وقد تناوله أعداء الحزب بوضاعة موصوفة وبراعة غوبلزيّة سامة في سياق محاولاتهم الدؤوبة (الفاشلة) للمطابقة بين «حزب الله» و«القاعدة».
الانتهازيّون ليسوا اختراعاً يضاف إلى المشهد عنوة، بل إنّهم صنو الكارثة. نتحدث هنا عن أولئك الذين حملوا صناراتهم وألقوها في بحيرة الدم السوري. أولئك الذين لم يقل أحد لهم معنى الحرب، فاستمروا يتحدثون عن ثورة، وبينهم ألف صياد متذاكٍ، ما انفكّ ينتظر صيداً كبيراً يتباهى به. شيء يواجه فيه ما واظب على تكراره، من دون القدرة على إثباته حتى لظلّه المتضائل أمام البحيرة التي صارت شاهقة. إنها «وحشيّة الحزب» يقول الذين نشروا الفيديو في البداية، على موقع منشغل بالتعامي عن عشرات المقاطع التي ظهرت فجأة في الإعلام الأميركي، وسحبت من التداول بعدما أدت وظيفتها على أفضل نحو، وتلتها موجة تصفيات عنيفة بين «الثوار» في داعش و«النصرة»، وهذه الجماعات لا تحتاج إلى شهادة في الجريمة. يعرف العارف أنّ الأسلحة الواردة في المقطع المقصود ليست أسلحة يستخدمها الحزب، نظراً إلى تدريباته العسكريّة المختلفة عن تدريبات الجيش السوري، بينما ما يعرفه الجميع أنّ الفيديو بالذات ليس منفصلاً عن الأحداث. لقد ظهر في فترة صعود الشاب مهدي ياغي الذي انتشرت وصيته الودودة على الموقع عينه قبل أسبوعين، وأدت وظيفتها هي الأخرى، فشحنت عواطف مناصري الحزب وفتحت نافذة في قلوبهم كانوا يبحثون عنها ولا يجدونها في مقدّسات الحزب. في الوقت عينه، لم يقو الخصوم على القسوة، فسجّلوا اعتراضاتهم على وظيفة نشر وصيّة الشاب لا على صاحبها شخصياً. وعدّ جماعة الحزب هذا انتصاراً كما يفعلون عادةً، فيزجّون بالنصر في كل شاردة وواردة، وبدلاً من إظهار الصورة الوردية للمقاتل قبل أن يصير مقاتلاً، استغلت وصيّة مهدي ياغي لإمرار المصطلحات الأيديولوجيّة المستوردة كمصطلح «شهداء الدفاع المقدّس» الذي استخدمه الخمينيّون أثناء الحرب مع صدام حسين. ورغم أنها من روح ثقافته، ربما حان الوقت الذي يجب أن ينتبه فيه الحزب إلى ضرورة الإقلاع عن هذه المصطلحات التي تستفز ما تبقى من معتدلين يجهدون لفهم موقفه المعقد.
عودة إلى المقطع المنسوب إلى «حزب الله» ولا شيء فعلياً يدلّ على أنه كذلك. الانزعاج من بشاعة المقطع لا يكفي. الانزعاج ذريعة الباحث البائس، العاجز عن الاعتراف بالبؤس محتمياً بصديق وهمي اسمه الأخلاق. ومن سارعوا إلى تبنّي عنوان المقطع على يوتيوب، هم أنفسهم الذين صادروا الأخلاق منذ اشتعال الأزمة في سوريا. والحال أنّ خطاباً مثل هذا هو خطاب بوظيفة محددة لا تستند إلى البحث ولا ترتكز إلى أصول الأخير. خطاب خفيف، يتجاهل العقل، ويحاكي غريزة الجماعات المؤهلة لاقتراف العنف أصلاً، ما يدفعها إلى المصادقة على حصوله بلا تدقيق. ولا يعني هذا أنّ المنستبين إلى الحزب نظيفون إلى الأبد، بل عرض لمحاولة تزوير معلنة في مقطع محدد. في أي حال، يبدو أن التصديق مجاني. وإذا صدقنا أنّ تلك كانت ثورة وأن بيننا مَن تقاعَس عن اختراع المسوغات لهيئاتها الشرعيّة، أو دعم عصارة إنجازاتها، «جيش محمد» المنوي تأسيسه أخيراً، فقد نصدّق أيضاً أنّ «حزب الله» صار يتحدث اللهجة السوريّة، وأنّه غيّر بزّات مقاتليه العسكريّة، واستبدلها بتلك التابعة لـ«قوات الدفاع الوطني» السوريّة. والأخيرة تضم مقاتلين غير نظاميين إطلاقاً، تماماً مثل (ما تبقى من) «الجيش السوري الحرّ». وبما أننا متابعون، حتى العظم، سنرجّح أيضاً، كما درجت الموضة أخيراً، أنّ «هذا حدث في القصير». وسنقنع أنفسنا بأن الشاب الوحيد الذي يتحدث باللهجة اللبنانيّة، وظهر في نهاية المقطع، كان يمثِّل حين حاول ثني الجنود السوريين عن فعلتهم: «ما تفعلونه غير مقبول إطلاقاً». وبما أنّ «الثورة» علّمتنا الأسطرة، وكمشاهدين مسترخين خلف تلفزيونات تسيّر دولاً وإمارات، ولا تعمل لوجه الله، لن يُحدث تقاعسنا عن البحث فارقاً. بيننا مَن «يتحسّس» من مفردات غير مجدية، كالبحث أو التدقيق أو التركيز. إنّها فتنة اليوتيوب التي فعلت ما فعلته بين خيرٍ وشرّ، والتبست علينا في مواضع تحتمل الالتباس. غير أنّ هذا المقطع واضح تقريباً، والرجل قال في نهايته على نحو حاسم: «هذا غير مقبول». هذا ليس تسويغاً لفظاعة ما حدث، فالحزب مطالب أمام الجميع ـــ حتى الانتهازيين منهم ـــ بتوضيح ما حدث، ونكران من شارك فيه. سيبدو هذا طوباوياً. لكنّها الحرب، وربما يجب على المشاركين فيها أن يعتذروا حتى عمّا لم يفعلوه، ذلك طبعاً بعد أن يتوقف المتفرّجون عن تصويب ابتساماتهم الدنيئة إلى بحيرة الدم.

يمكنك متابعة أحمد محسن عبر تويتر | @Ahmad_Mohsen_