كان لعرضه الأوّل في بيروت وقع الصفعة على الجمهور. فيلم «نحنا مو هيك» يتناول قضيّة حسّاسة وشائكة، هي النزوح السوري (والفلسطيني) إلى لبنان، من وجهة نظر أصحاب المعاناة. تقترب كارول منصور من المأساة بشجاعة ونزاهة، وقدرة عالية على الإصغاء. ترويها لنا على لسان شهودها، قصصاً بسيطة وحقيقيّة، موجعة، بعيداً من الإيديولوجيا والاصطفافات والمصالح الضيّقة. هناك شعب كامل (ربع سكّان البلد المضيف قريباً، يقول الفيلم، ربّما أكثر في الواقع)، انسلخ عن أرضه، ومكانه، وطمأنينته، وحياته اليوميّة، و«هجّ» إلى لبنان بحثاً عن العزاء، عن برّ الأمان الموقت. فماذا وجد في البلد الشقيق؟ وكيف يعيش؟ وكيف يستعيد ذكرياته، ويوصّف واقعه، ويروي تغريبته؟
بعض اللبنانيين يتعامل مع قضيّة النازحين بسلبيّة واختزال، بين خوف وأبلسة وتضخيم وتعميم وجهل وتعصّب. كارول تتيح لنا ـــ للمرّة الأولى ربّما ـــ أن نسمعهم، أو بالأحرى أن نسمعهنّ. فالفيلم عن النساء، والمخرجة تتجلّى حين تغوص في عالمهنّ الحميم. «أن تكون امرأة في زمن النزاعات المسلّحة أكثر خطورة من أن تكون جنديّاً»، كما تستهلّ شريطها. خمس نازحات من خلفيّات اجتماعيّة وثقافيّة متباينة، يتقاسمن معنا حكايات تقول هَول اللحظة وفظاعتها. عفراء الحلبيّة، ابنة الطبقة الوسطى تعيش في شقّة بيروتيّة مع الأخت والأصدقاء، خريجة الأدب الإنكليزي ترنو إلى الغناء والتمثيل، وتمضي بحثاً عن ذاتها خلال هذا «الوقت المستقطع» في بيروت، فتصطدم بحواجز كثيرة. أم عمر وأم رائد تعيشان في ظروف أكثر قسوة مع مولوديهما بين أرض تفيض، ومستودع نتن، وخيمة واحدة لخمس عائلات. «سمر» (اسم مستعار، لن نرى الوجه) وجدت نفسها مضطرّة إلى تزويج ابنتيها المراهقتين، وكانت تحلم لهما بالجامعة. وأخيراً سهام الفلسطينيّة، صاحبة الشخصيّة الفذّة، دفنت زوجها الذي شهدت احتضاره في مخيّم اليرموك، حملت طفلتيها التوأمين وجاءت إلى لبنان حيث تحتفظ بملابسه المضرّجة في حوض للزهور.
فيلم كارول منصور الجديد ينضح حياءً ونبلاً ومكابرةً. بل إنّ البسمة ترتسم أحياناً على الوجوه في ذروة الحديث عن المأساة. عفراء تغنّي مع فيروز وزياد (وكوزما) «بيذكّر بالخريف». أم عمر تأسف لأنّها لا تستطيع أن تغوي زوجها. سهام تواصل نضالها من أجل ابنتيها جنى وجودي، وفي خدمة النازحين. وسمر المشتاقة إلى الشحرور الذي كان يوقظها كل صباح، تغنّي مع أسمهان «يا بدع الورد يا جمال الورد». لقد أدخلتنا كارول إلى قلب المأساة، فإذا بنا نتعرّف إلى الوجه الحقيقي لضحاياها. هؤلاء الناس يعيشون على مقربة منّا حقاً؟ مع نهاية الفيلم ينتابك الإحساس بالخجل والتقصير والغضب. تفكّر في أن عليك أن تفعل شيئاً، على الأقلّ أن تغيّر رد فعلك وتعيد النظر في خطابك وتصرّفاتك. كل لبناني يجب أن يشاهد فيلم كارول منصور «نحنا مو هيك».

يمكنكم متابعة بيار أبي صعب عبر تويتر | PierreABISAAB@