هذه المرّة، يلتفت عباس كياروستامي (1940) إلى أكثر أيقونات الشعر الفارسي قداسةً، ويعمل مشرطه في غزليات حافظ الشيرازي (1310ـــ 1391)، فيخلّصها ـــ من دون ألم ـــ من فائض الإيقاع. وإذا بها تتحوّل إلى نصوص أخرى، أقرب ما تكون إلى شعر الهايكو الياباني، وقد تتشابه مع «رباعيات الخيّام» لجهة الكثافة واللغة المصقولة، والحسيّة العالية. يدرك السينمائي الإيراني المعروف أنّه يخوض في حقلٍ شائك. لذلك، فهو يعاجلنا إلى تقديم «غزليات حافظ الشيرازي برؤية عباس كيارستمي» (دار المدى ــــ بيروت، نقلها عن الفارسية ماهر جمو)، بقول مقتبس من آرتور رامبو «ينبغي أن نكون حداثيين بشكلٍ مطلق».
مقولة تتيح لصاحب «طعم الكرز» تشريح نصوص الشيرازي على هواه، أو استلال المضمر في متن تلك النصوص، ووضعه في الواجهة. اللعبة ليست جديدة عليه، فقد سبق أن تجرّأ على نصوص سعدي الشيرازي في «سعدي يستغيث من نفسه» (2007)، كما استعار بعض عناوين أفلامه من قصائد لشعراء إيرانيين، مثل سهراب سيبهري «أين منزل الصديق؟»، وفروغ فرخزاد «ستحملنا الريح» وبالطبع، من دون أن نتجاهل تجربته الشخصية في «ستحملنا الريح» (1999)، و«ذئب متربّص» (2005).

هكذا يذهب السينمائي والشاعر والرسّام بعدة شغل واحدة لقطف ثمار الشيرازي. يهزّ شجرة الشعر بقوة، ثم ينتخب الثمار اليانعة فقط. في منطقة ما من القصيدة المسربلة بالموسيقى والإطناب الإيقاعي، يلتقط المعنى، ليختزل النوتة، إلى ضربة إيقاعية واحدة، كما يفعل في سينماه ذات النبرة الشاعرية، سواء في ترميم الكادر، أو في الحوار. يقول كياروستامي في تبرير إعادة صوغ أشعار الشيرازي بهذه الطريقة: «الشجرة عندما تكون في بريّة ولا يحيط بها شيء، فإنها تُشاهد ويكون في وسعنا مشاهدة خصوصيتها وقيمتها، هذه الأشعار هي أيضاً كذلك».
وبصرف النظر عن الهوية الجديدة للنصوص، فأهمية التجربة تنبع من عملية الهدم والبناء، وبمعنى آخر تحطيم الميراث المقدّس لأحد أعمدة الشعر الفارسي من منظورٍ آخر، أو إخراجه من كتاب المحفوظات إلى هواء الشارع العمومي. ووفقاً لما يقول بهاء الدين خرمشاهي، وهو أحد النقّاد المتخصصين في أشعار حافظ، فكتاب كياروستامي «يسعى إلى محو الهالة الأسطورية الضبابية عن حافظ وتقديمه على أنه كائن أرضي أولاً».
قراءة هذه النصوص تحيل على الشحنة البصرية التي نجدها في أفلام كياروستامي. الشحنة المتوترة، والمحمولة على جماليات رحبة وحميمة في التقاط جوهر المعنى: «مصائب خُصلاتك السوداء لا نهاية لها»، و«من رقة خفية ينبثق الحب»، و«أمل وصالك هو ما يبقيني حيّاً».
بهذا الازميل الصارم، ينحت كياروستامي ما تبقى من صلصال الشيرازي، كأنّ الشعر في المآل الأخير يعبر من يد خزّافٍ إلى آخر أكثر درايةً ولوعةً، لكن من دون أن يخبو بريق الأصل. لن نجد بسهولة جبّة الشيرازي الصوفي، بل ذلك العاشق المحزون، وصاحب الحكمة، والخمريات، في نزهة المعنى، بعد تقشيره من محسناته البديعية الفائضة. يقول «هات الخمر، فأركان العمر، في مهب الريح»، و«أنا الذي أتنفّس من دونك، يا للعار!»، و«رائحة شواء قلبي، ملأت العالم».
تتلخّص رؤية عباس كياروستامي بتحرير الأصل من القيود، والتقاط العبارة التي تختزل ما قبلها وبعدها بضربات مباغتة تطيح الزخارف، استناداً إلى جماليات قصيدة الهايكو وحدها. القصيدة التي يراها كياروستامي «أكثر أشعار العالم شاعرية»، و«انها لا تمنحك كل ما ينبغي أن تمنحه بل تبقيك عطشاً إلى المعنى، وهي عوض أن تحضر الشعر إلى عالمك تدعوك إلى اللامكان».
من موقعه كسينمائي، يتّكئ صاحب «لقطة مقرّبة» على اللقطة في بناء مشهد لاحق، يتراكم على مهل، وبسلّم موسيقي مختلف، هو حصيلة ذلك الإيقاع المخبوء واللامرئي تحت طبقات شعرية كلاسيكية، ينبغي ألا نتجاهل أهميتها، مهما كانت مبررات الحداثة تتطلب مثل هذه المغامرة.
لكن هل انتفض حافظ الشيرازي في قبره، وهو يجد معول كياروستامي يهدم ما بناه «أفضل عازف على الكلمات»، كما قال عنه إدوارد فيتزجيرالد، أم أنه اطمئن إلى المسافة التي قطعها شعره نحو جيل آخر، ليس لديه الوقت، لقراءة المطولات؟ على الأرجح، فإنه ابتهج لصنيع حفيده.