ماذا يجري في تلفزيون «المستقبل»؟ إذا كان وضع القناة قد بدأ يهتزّ منذ سنوات، فإنّ هناك دوماً عناوين جديدة لأزمة طويلة ومفتوحة على كل الاحتمالات. يبدو واضحاً أنّ القناة الزرقاء تعاني نقصاً كبيراً في الأوكسيجين. هي حكماً خارج المنافسة. شاشتها باهتة، وبرامجها الخاصة تقلّصت إلى اثنين أو ثلاثة. وخلف الشاشة أزمة مالية تكبر ككرة ثلج. ليس بإمكان أحد تقدير الحجم الإجمالي للديون. إنه استنتاج يخرج به كل من حاول مقاربة الوضع في القناة.
طويلة هي اللائحة التي تحمل أسماء الدائنين، ممن يطالبون عبثاً بتحصيل حقوقهم العالقة منذ سنوات: شركات إنتاج، مخرجون ومعدّون، وشركات أقمار صناعية، ومصالح رسمية في الدولة، وحتى شركات الصيانة وورش مبيدات الحشرات. ولعلّ الدعاوى القضائية، وآخرها تلك التي رفعها المخرج ناصر فقيه (الأخبار 28/9/2013)، هي أحد التداعيات المستجدة لأزمة مالية كبيرة تتخبّط بها المحطة منذ دمج الإخبارية والقناة الزرقاء قبل عامين (الأخبار 21/12/2012)، وصرف حوالى 180 موظفاً من التلفزيون والصحيفة لحصر النفقات. لعلّ من المفارقات المضحكة _ المبكية أنّ كثيراً من الموظفين والمتعاقدين «يحسدون» زملاءهم ممن شملتهم لائحة الصرف العام الماضي. التعويض بما تجاوز السقف القانوني الذي حصل عليه المصروفون حينها، أفضل بكثير من الرواتب المجتزأة التي يتقاضاها بعض الموظفين اليوم، علماً بأنّ عدداً من مقدمي البرامج لم يتقاضوا أتعابهم منذ سنة، وفترة انقطاع الرواتب عن المتعاقدين تراوح بين ستة أشهر وسنة.
يشكو بعض الموظفين لـ«الأخبار» سوء أوضاع المحطة، معتبرين أنّ الأزمة تتفاقم نتيجة سوء الإدارة. غير أن المتابع لأزمة إعلام «المستقبل» يستنتج أنّ للمشكلة أبعاداً أخرى تكمن في الرؤية المشوّشة لدى الإدارة السياسية للقناة، وليس في الإدارة الوظيفية فحسب. بتعبير أدقّ، ماذا يريد رئيس الحكومة السابق سعد الحريري من قناته؟ هل يريد استخدامها للعودة إلى السلطة، أم للمساهمة في الحرب على النظام السوري، أم للهجوم على «حزب الله»، أم للمنوعات والبرامج الترفيهية؟ وهل يريد الحريري أن تكون محطّته عابرة للطوائف والمذاهب، أم ناطقة باسم طائفة واحدة تعبّر عن هواجسها؟ وبالتالي، إلى أي مدى يمكن القول بأنّ «المستقبل» دفعت فعلاً فاتورة لون سياسي ومذهبي اصطبغت به منذ اغتيال الرئيس رفيق الحريري (2005)، ما أفقدها تلقائياً شريحة واسعة من الجمهور، وبالتالي المعلنين؟
في الأساس، هل يشعر الحريري بأنّ «المستقبل» لا تزال حاجة له، أم أنها صارت عبئاً عليه بفعل التخبّط المالي الذي يعانيه منذ فترة طويلة؟ وإلى أي حدّ تدفع القناة ثمن وجود الحريري في الخارج، ما أضعف مركزية القرار، وأفسح في المجال لتعدد الاجتهادات؟ بالنسبة إلى العارفين بما يدور في كواليس القناة، فإن أزمة المحطة مركّبة يمتزج فيها البعد السياسي بالبعدين الإداري والمالي. يحمّل هؤلاء الفريق الإعلامي للحريري المسؤولية، متمثلاً بمستشاره السياسي باسم السبع، ورئيس تحرير جريدة «المستقبل» هاني حمود الموجودين خارج لبنان، علماً بأن الإدارة الوظيفية ليست إدارة أصيلة بل هي بالإنابة (رمزي جبيلي). ويلفت هؤلاء إلى أنّه في ظل غياب السيولة، يغدو الفشل نتيجة ضعف الإدارتين السياسية والإدارية مضاعفاً. في المقابل، ثمة أسئلة لا تقلّ أهمية تتعلّق بأزمة السيولة التي تنعكس بدورها تراجعاً في إعلام «المستقبل». وثمة ترجيح أنّ الأزمة الفعلية بدأت تتكشّف بُعيد انتخابات 2009 التي أُنفقت فيها مبالغ طائلة جراء الحملة الانتخابية، ما رتّب على الحريري ديوناً كبيرة لم تُسدد حتى اليوم، وفق مصادر مقربة من القناة. رغم ذلك، تستغرب المصادر لامبالاة الحريري، وامتناعه عن القيام بخطوات جدّية وجذرية لإنقاذ التلفزيون، معتبرة أنّ الخلل يكمن أساساً في غياب القرار، قبل المال.
إزاء هذا الواقع، ثمة خشية لدى الموظفين من إمكان إقفالها، مشبّهين وضع مؤسستهم بأحجية يُستعصى حلّها! لكن المصادر المقربة من القناة تستبعد خيار الإقفال، لأنّ المحطة أصبحت جزءاً من الشخصية السياسية والمعنوية لـ«تيار المستقبل». والأجدى برأيها هو إيقاف الصحيفة، لأنّ التلفزيون يصل أكثر إلى الناس من جهة، ومن جهة ثانية فقد تهاوى عدد قراء الصحيفة التي تصدر بالدين، مع عدم تسديد ثمن الورق والطباعة لمطابع «الشرق» منذ ثلاث سنوات. كما أنّ موظفيها يتقاضون رواتبهم بمعدل مرة كل شهرين. يبدو أنّ «المستقبل» لا يزال حتى اليوم يدفع ثمن اغتيال الحريري!




هجرة من البوريفاج

بدأت جريدة «المستقبل» بنقل مكاتبها تدريجاً من مبنى البوريفاج (الرملة البيضاء)، الذي بقيت فيه لسنوات طويلة، إلى مبنى آخر ملاصق لمقرّ تلفزيون «المستقبل» في منطقة سبيرز. وكان المبنى الجديد للصحيفة يضمّ سابقاً بعض موظفي المحطة مثل العاملين في قسم المحاسبة وبعض التقنيين، لكن بعد موجة الصرف الأخيرة من القناة، اتسع المكان لموظفين آخرين. وسبب الانتقال يعود إلى بيع أيمن شقيق الرئيس سعد الحريري مبنى البوريفاج الذي آل إليه بعد توزيع إرث والده الرئيس رفيق الحريري. ولم تستبعد مصادر مقربة من تيار «المستقبل» أن تكون لعملية الانتقال صلة، ولو غير مباشرة، بالأزمة المالية التي يمرّ بها التيار وإعلامه.