لم نعد معتادين هذا النوع من الأمسيات. المسارح تُغلق في بيروت، والرواد يتوارون شيئاً فشيئاً، بعدما استسلموا للتعب والمرض واليأس واللاجدوى. إنّه فشل مشروع الحداثة اللبنانيّة التي ابتلعها «الكاباريه». كل ما أسسوه وبنوه من الستينيات، لنصل إلى هذا الخواء؟ تقاليد الفرجة المسرحيّة لم تعد كما كانت في بيروت العصر الذهبي، ولا حتّى في بيروت الحرب الأهليّة وخلال السنوات التي أعقبت نهايتها الرسميّة. لقد حدث كل شيء بسرعة. لم ننتبه إلى المدينة إلا وقد ضاق أفقها، وانحسرت حياتها الإبداعيّة والثقافيّة، ليبقى التلفزيون الأبله فيستعمر العقول والمخيلات والأذواق. وما زلنا نعيش لحظة اتساع الصحراء. دور نشر أقفلت أو ستقفل. صحف عريقة مهددة بالانسحاب من الأكشاك. ماذا سيبقى من المدينة غداً، غير ناطحات السحاب الخالية، وسيارات الدفع الرباعي العالقة في الزحام، ومواخير الاقتصاد الطفيلي، والشوارع المعقّمة، والأحياء البلا روح، والروبوتات البشريّة التي ترطن بالإنكليزيّة كلاماً غبياً منمّطاً.
مساء الاثنين في بيت مري، على كتف بيروت، وضمن المهرجان الكلاسيكي العريق، كنا في «البستان» على موعد مع لحظات من المسرح الصرف. «سهرة مع شكسبير»، بالعربيّة، بين فصحى وعاميّة رشيقة، في زحمة الأمسيات الأوبراليّة والموسيقيّة العالميّة التي يحفل بها البرنامج. إنّها فكرة ميرنا البستاني التي نحزر لمساتها. لقد جمعت ثلاثة من أبرز وجوه المسرح اللبناني: ميراي معلوف التي امتدت مسيرتها جسراً بين منير أبو دبس وبيتر بروك، ورفعت طربيه الممثل الفريد رفيق ريمون جبارة وتلميذه وصاحب الحضور المميّز. جلال خوري المخرج النادر الذي حمل البريختية الى الشرق، ولم يفقد رغم تدهور الأزمنة حدّة بصيرته، وقراءته الجدليّة النقديّة للتاريخ.
كانت ليلة نادرة، والجمهور سيتذكرها طويلاً. الجمهور السعيد الحظ الذين لمحْنا في صفوفه بعضَ أهل الأدب والمسرح والفكر والإعلام والفنّ… من صنّاع العصر الذهبي لبيروت. البرنامج قام على مجموعة مونولوغات وحوارات من شعر وليام شكسبير (عرّاب «مهرجان البستان» هذا الموسم) ومسرحياته. نقطة القوّة إضافة إلى الفكرة نفسها، كان اختيار النصوص، وإعادة تعربيها وأدائها. شكسبير الى الخشبة اللبنانيّة. شكسبير لنتذكر ما هو المسرح. أما الرابط بين المشاهد، فكان المؤلف الإنكليزي شخصيّاً: أداه جلال خوري على طريقته «التغريبيّة». شكسبير يخاطبنا الآن وهنا، عن الفتن المذهبية في إنكلترا القرن السادس عشر، «ما بعرف إذا عندكم إنتو هيك شي اليوم…». ويضع النصوص في إطارها النقدي التاريخي بخفّة ظل… ويلعب حتّى دور الحائط المثقوب في «حلم ليلة صيف».
لحظات نادرة من المسرحة والانفعال. ميراي معلوف تستحضر كوابيس «ليدي ماكبث»: «إلى السرير. الباب يقرع. البس ثياب النوم، ما مضى قد انقضى». رفعت في دور «ريتشارد الثالث»، وفي مونولوغ هاملت الشهير «أكون أو لا أكون». العاشقان الأبديان روميو وجولييت. كوميديا الأغلاط. كانت ميراي كالكاهنة في قدرتها على حمل الكلمات وإحيائها. ورفعت يخلق من حوله الأبراج، والمعاني والمواقف. وجلال بقامته الفارعة تفوح منه عطور تلك السنوات السعيدة. فقط، ليت الثلاثي تمرّن أكثر على النصوص، وزاد من اللعب الداخلي على حساب المهارة التقنية. ليت شكسبير لم يرفع الكلفة معنا، ولم يحمل أوراقه بيده، بل خاطبنا من دائرة ضوء ضيّقة، ومن أماكن مختلفة من الصالة. من علياء التاريخ. فالتغريب حاصل لا محالة، ولا داعي لمؤثرات إضافيّة…
لكن ما همّ. لقد عشنا أول من أمس ليلة من العمر في «البستان». شكراً لميرنا البستاني وللعمالقة الثلاثة. ليت هذه المبادرات تتكرر في صحرائنا الثقافيّة.