قامتان مصريتان طغت على رحيلهما السياسة. سيد درويش الذي رحل ليلة عودة سعد زغلول من المنفى، وطه حسين الراحل مع اللحظات الأخيرة من «حرب أكتوبر» 1973. من ثم فإن الاحتفالات بالذكرى الأربعين للعبور هي أيضاً أربعون «عميد الأدب العربي»، ومرة أخرى تطغى الأولى على الثانية. لكن في حضوره أو رحيله، قدِّر لصاحب «مستقبل الثقافة في مصر» الارتباط بكل مفرق مصريّ، وهذه الأيام ليست استثناء، لا لتواكب الذكريين فحسب، بل لأنّه الآن في مصر، لا صوت يعلو فوق صوت «الهوية».
تهمة «التغريب» كانت تسمى في عهد طه حسين «الأوربة»، وهي التي تحولت في ما بعد إلى «الأمركة». ومهما كان، فإن مسألة الهوية كانت واحدة من المعارك العديدة لصاحب «الفتنة الكبرى»، بل ربما كانت مسألة الهوية، ورأي حسين في انتماء الثقافة المصرية إلى «حوض البحر المتوسط»، هو المحرك للشكّ «الأوروبي» الذي اعتمده منهاجاً في نقد التراث، وخاض به وفيه معارك، لحسن الحظ أنها كانت أثناء ما عرف بـ«الحقبة الليبرالية»، مصر الثلاثينيات والأربعينيات من القرن العشرين. لم يكن ذبح الكتّاب وهدر دم المؤلفين قد راج، أو عاد إلى رواجه بعد. مع ذلك، فقد فصله مجلس وزراء اسماعيل صدقي من عمادة كلية الآداب، لكنّ «قاهر الظلام» كان أقوى دائماً، وكان يعود كل مرة، مع حكومة «الوفد» وزيراً للتعليم تارة، أو رئيساً للمجمع اللغوي طوراً. قبل ذلك كله، ظلّ حاضراً بأفكاره، لا يتوقف عن إثارة معارك الثقافة من دون أن ينسى ترك بصمته الروائية في «دعاء الكروان»، أو النقدية «مع المتنبي». غير أنّ «الهوية» و«التنوير» كانا الخيطين اللذين ينظمان كل معاركه وإبداعاته. إنه البحث الصارم والعلمي في الأصول، واتباع المنهج الخالص من شوائب العواطف، نحو «التقدم». من هنا يحضر طه حسين كلما حضر الحديث عن الدستور. في كتابه «من يعيد» الذي أعادت طبعه وزارة الثقافة العام الماضي، يبرز رأيه الثاقب في «تديين الدستور»، أي النصّ على دين رسمي في الدستور المصري الأول 1923. في ذلك الوقت المبكر ( 1927)، رأى «العميد» أنّ ذلك سيخلق مشاكل التمييز بين المسلمين أنفسهم، قبل حتى أن يخلقها تجاه الأقباط واليهود.
لكنه كان الرأي الذي لم يؤخذ به، بل صعد «الدين الرسمي» من المادة المتأخرة (149) في الدستور الأول، إلى المادة الثانية بدءاً من دستور 1971، ثم أضاف الإخوان المسلمون في دستورهم مادة إضافية «تُمذهب» الدين الرسمي ليصير دين «السنة والجماعة». وغاية ما يُطمح إليه في مناقشات لجنة الدستور المجتمعة في مصر الآن، إزالة المادة المذهبية، مع الإبقاء على مادة الدين الرسمي التي أثارت غضب صاحب «الأيام» قبل 90 عاماً. يستمر إذاً منح الطابع الديني للدولة، رغم أنّ تلك «الدولة» تخوض حربها ضد الإسلام السياسي، وتستحضر «الهوية» المصرية ـــ مع كثير من صور الأهرامات ـــ إزاء الإسلاميين، لكنها تبقى أعجز، أو أقل رغبة في المواجهة، من اتخاذ الموقف الجذري، العلماني، من مسألة الدستور. فهي أيضاً تحتاج إلى توازنها الديني الخاص، نسختها من الإسلام «المعتدل» الذي يتصدى لتمثيله «الأزهر»، المنافس الأقوى للجماعات، وأحد مصادر تفريخها في آن. هكذا، لا يبدو أنّ «مستقبل الثقافة في مصر» يستطيع ـــ حتى الآن ـــ البناء على ما تركه العميد، ربما لأن أهم ما في إرث طه حسين هو الشجاعة النادرة.