لزمن مصريّ طويل، راجت تسمية «أفلام مهرجانات» لوصف الأفلام التي قد تلقى تقديراً نقدياً من دون أن تحقق عوامل الجذب الجماهيري. في العامين الأخيرين، انتقل الوصف بصورة درامية إلى النقيض، فصارت «أفلام المهرجانات» هي تلك التي تعتمد على «المهرجان الشعبي»، الشكل الموسيقي الذي يرفض البعض مجرد اسباغ الوصف الموسيقي عليه. إنّه نمط من الغناء الشعبي ازدهر في الأعراس وانتقل إلى السينما محققاً أعلى الإيرادات في موسم العيد المنقضي. بين «المهرجانات» الأولى والثانية، مفارقات متعددة، لكن يبقى محورها الجمهور.
درجت تسمية «أفلام المهرجانات» في حالها الأولى بدءاً من أيام يوسف شاهين، وأفلامه الطليعية حيناً والغامضة أحياناً، وكان يقصد بها أنّ تلك أفلام أعدت خصيصاً لتطابق معايير المهرجات الدولية، والذوق الغربي ــ الفرنكوفوني خصوصاً ــ من دون أن تعنى كثيراً بذوق الجمهور العربي. وكانت مدرسة يوسف شاهين تعدّ دائماً إحدى وجهتي نظر في السينما المصرية، تقابلها على الناحية الأخرى، مدرسة حسن الإمام التي رأت أن الفنان يفقد بوصلته إن لم يعر اهتماماً للجمهور، أو لو لم يعره الجمهور اهتمامه.
لكن شاهين عرف الجماهيرية في ما بعد ولو متأخراً، بالتدريج بدءاً من «المهاجر» ( 1994) ثم «المصير» (1997) وما تلاهما، وخصوصاً بعد نيله جائزة اليوبيل الذهبي لـ «مهرجان كان السينمائي» عن مجمل أعماله عام 1997. غير أن تلك الأفلام، عدّت ــ في الرأي النقدي ــ أقل فنياً بكثير، مقارنة بزمن «باب الحديد» ( 1958) و«الاختيار» (1970) و«اسكندرية ليه» (1978).
غير أنّ تلاميذ يوسف شاهين، على رأسهم رضوان الكاشف ويسري نصر الله، كانوا أكثر من عانى فعلاً من «الاتهام» بأنهم يصنعون «سينما مهرجانات». بدأ عملهما في الفترة التي بدت فيها السينما المصرية أقل استعداداً أو تحمّساً لخوض تجارب مغايرة، وكادت الصناعة أن تنهار تماماً في منتصف التسعينيات، وصار وصف «فيلم مهرجانات» هو الاعتذار المهذب الذي يقدمه المنتجون ليعربوا عن رأيهم في الإيرادات التي يتوقعون «ألا» يجلبها الفيلم. وفي مفارقة خاصة، عانى رضوان الكاشف ذلك مع يوسف شاهين «الموزّع» نفسه، حين رفعت شركة «أفلام مصر العالمية» فيلم الكاشف «عرق البلح» (1999) من صالة السينما الوحيدة بعد أسبوع وحيد. على النقيض تماماً، جاءت أفلام المهرجانات «الجديدة»، بعيداً عن عالم يوسف شاهين ومدرسته، وانتقالاً إلى أجواء المنتج السبكي وعائلته.
أوكا وأورتيجا الاسمان الأبرز في عالم «المهرجان الشعبي» الخارج من رحم مهنة الـ«دي. جي» في الأفراح الشعبية، وهي مهنة ظهرت لتحل محلّ «مطرب الأفراح» القديم، محققة هدفين: توفير أجرة المطرب، وتحقيق تنوع أكبر في الأغنيات، وهي هنا بأصوات أصحابها الأصليين، وتقاس مهارة لاعب الـ«دي جي»، بمقدار تنوعه، وقدرته على التجاوب مع الجمهور المناسب في العُرس المناسب، لكن المهنة لم تلبث أن «تطورت»، وصار لها نجوم بدأوا بسد الفراغ بين الأغنيات واللازمات الموسيقية بأصواتهم وتعليقاتهم، ثم أغنياتهم، التي لا تتطلب أصواتاً بمعايير صارمة، طالما تمت الاستعانة بالإلكترونيات، وهي ليست هنا «موسيقى إلكترونية» بالمعنى المعروف، فلا يُقصد بها تآلف أصوات لا تتوافر في الآلات الموسيقية التقليدية لإنتاج أصوات «غير طبيعية»، وإنما يتلاعب «المهرجان» بصوت المؤدي نفسه، لتحقيق نتيجة هي «البهجة» في نظر البعض و«الضجيج» في نظر الآخرين، تماماً كما يراوح الرأي في الكلمات، فيراها فريق نوعاً من «الراب الشعبي»، ويراها آخرون مفردات لا معنى لها تواكب موسيقى لا لحن فيها. وأياً كان، فقد بدت تلك الأجواء مناسبة تماماً لموسم «العيد» السينمائي الذي كان يشهد في الماضي تنافس «الإثارة» القديمة بين «نجمة الجماهير» (نادية الجندي) و«نجمة مصر الأولى» (نبيلة عبيد) و«الزعيم» (عادل إمام)، لتتولى المهمة الجديدة صافيناز (الأخبار 26/10/2013) وبوسي وفرق المهرجانات الشعبية في أفلام على غرار «القشاش» و«قلب الأسد»، حيث الفيلم هو الدعاية والدعاية هي الفيلم، وكلاهما خشبة مسرح شعبي للراقصة وحولها «المهرجان».
وهذه المرة، صار «فيلم المهرجان» هو الاتهام المعاكس. لم يعد الفيلم الذي يحتقر الإيرادات من أجل المعايير الفنية، بل صار الفيلم الذي يحتقر المعايير الفنية من أجل الإيرادات، وبينهما، تبحث السينما المصرية عن النقطة السحرية التي تعنيها كصناعة... النقطة التي تُبقيها موجودة وتبقيها «سينما».