دمشق | بعد أكثر من سنتين ونصف سنة على اندلاع الانتفاضة السورية، وكومة الهزائم والخيبات التي تجرّعها السوريّون، ثمّة ما يشبه الإجماع بأنّ «الثمرة» الوحيدة التي أنتجتها الحرب هي «الفن السوريّ الجديد» في الرسم و«الديجيتال آرت» بشكل خاص.ربما لم يكن تمّام عزّام (1980) يحلم بأنّ أعماله ستكون «سفيرة السوريّين» في المشهد الفنيّ العالميّ. فضّل ابن مدينة السويداء الرحيل إلى دبي قبل سنوات ليتفرّغ لمشروعه الفني التجريبيّ، بعد تخرّجه في «كليّة الفنون الجميلة» في دمشق.

استند هذا المشروع بشكلٍ أساسيّ إلى «الركام والأشياء المنسيّة»، كملاقط الغسيل والحبال وقطع الشطرنج، ليعيد تمّام خلقها بسلاسة وعمق، فكانت النتيجة باهرة. انطلاقاً من ذلك، انتقل الفنان الشاب بشكل كامل تقريباً إلى «الديجيتال آرت» في المعارض المتلاحقة التي تنقّلت فيها أعمال تمّام عزّام قبل الانتفاضة وأثناءها من خلال «غاليري أيّام» التي تعرض تلك الأعمال: دبي (2009 ــ 2011 ــ 2012)، وبيروت (2010)، ودمشق (2010)، ثم ستكون العودة إلى لندن وبيروت عبر معرض «أنا السوري» الذي ستقدّمه «غاليري أيام» في شهر كانون الأول (ديسمبر) في العاصمتين اللبنانية والبريطانية، عدا عن «معارض افتراضيّة» جالت فيها هذه الأعمال على صفحات كثيرة عبر الفايسبوك.
لا بدّ من أنّ مرتادي الفايسبوك يتذكّرون جيداً صورة خريطة سوريا المشكّلة من ملاقط الغسيل السوداء. كانت تلك أول أعمال تمّام التي أدخلته دائرة الضوء بعد الانتفاضة. لاحقاً، أعاد عزّام تشكيل «اللوحة» بأنماط ومواد مختلفة؛ لطخات من الدم، ثم قطع «بازل» مدمّاة. وبقي الثابت الوحيد في الأعمال هو تلك الخريطة، وذلك الألم.«تأثير الثورة، بلا شك، يشبه الولادة بمعنى من المعاني»، يكتب تمّام رداً على سؤال. وهكذا كان الانعتاق، إذ انغمس في العمل لتوثيق دوّامة الدم اليوميّة، بعد أن يتحرّر، بشكلٍ من الأشكال، من قيد تلك الخريطة ويوغل في الألم ليبتكر أعمالاً جديدة متلاحقة، يتضاعف نضجها وألقها عملاً إثر آخر، رغم الفترة الشديدة القصر بينها، محافظاً على ولعه بالركام والتفاصيل الإنسانيّة المتدفّقة في الأشياء المهمَلة.
لا يبدو أنّ ثمة تأثيراً سلبياً لذلك «المنفى المؤقت» في دبي. نجد أنّ الأعمال طازجة ومحافظة على «الرتوش» التي تركتها الحرائق السوريّة اليوميّة، من دون أن نلتقط أثراً للمسافة بين الفنان وموضوعه. ويبدو أن تمّام الذي كان يريد العودة إلى سوريا في الأسابيع الأولى بعد الانتفاضة، أيقن أن البعد المكانيّ لا يؤثّر سلباً بالضرورة على العمل الفنيّ، بل ربّما كانت تلك المسافة بذاتها نقطة قوّة له ولأعماله، إذ إنّ وجودك خارج الجحيم يُتيح لك وصفه وإعادة خلقه بأدوات أخرى بشكل أفضل.
تمّام حاضرٌ في المشهد السوريّ بشكلٍ دائم، وخصوصاً في العامين الأخيرين، بعدما أدرك معظم السوريّين أن الشعارات الكبيرة لن تثمر، وأن تلك التفاصيل اليوميّة المرميّة في الطرقات هي كلّ ما تبقّى من حياتهم المتشظّية بشرط أن تجد من يتبنّاها ويمسح عنها غبار الحطام ويُعيد تلوينها، لا ليجمّل الدّمار بل ليعمّقه بشكلٍ أكبر تمهيداً لولادة جديدة. تلك اللوحة الشهيرة لتمّام عزّام التي أعاد فيها تلوين بناءٍ محطَّم (ثم ألحقها بلوحةٍ أخرى نرى فيها ورقة المئة دولار تتدلّى على جدار بناءٍ مهدَّم آخر كراية ممزَّقة)، وجدت طريقها إلى معظم صفحات السوريّين في الفايسبوك. لا تحتاج إلى ثقافةٍ عميقة لتفهم تلازم المال والخيانات والدمار، ولذا كانت تلك الأعمال ناطقاً بلسان حال المسحوقين. «أثق بالناس في الطرقات اليوم أكثر من ثقتي بالأسماء الرنّانة التي طالما تحدّثت عن الحرية، وأدارت ظهرها للثورة في يومها الأول»: بسبب هذه الثقة المتبادلة في الحوار الصامت بين الفنان ومتلقّيه، نكاد لا نجد اختلافاً بين كلام تمّام هنا، وكلام أيّ سوريّ آخر في معادلة الجحيم السوريّ التي أقصى السياسيّون أنفسهم عنها لأنهم أساؤوا فهم معنى ألوان تمّام على جدار ذلك البناء المهدَّم، وأرادوه رمادياً فحسب.
لم تخرج لوحة «جواز السفر السوري» عن الإطار المعتاد لأعماله عموماً؛ تفصيل مهمَل، إعادة تشكيل، ثمّ تظهر النتيجة الأخيرة المذهلة بالضرورة. لا اختلاف، وفي الوقت ذاته، كلّ الاختلاف. وهنا، يكمن «سر» تألّق أعمال تمّام عزّام. جواز السفر المفتوح كخيمة لجوء، وحبلٌ يحمي تلك الخيمة من السقوط ممتدّ إلى واجهة اللوحة كجواز سفر آخر إلى المتلقّي. حبل نجاة وحبل مشنقة. «ربما كان جواز السفر هو الشيء الوحيد الذي تبقّى لنا، رغم أنه لا يخوّل لنا الدخول الآن سوى إلى بلد أو اثنين من دون سلسلة التحقيقات المضنية، وتأشيرات الدخول والخروج». ربما نسي تمّام، أو تناسى، إضافة كلمة أخرى إلى جملته الأخيرة. «الإهانة»، هي كلّ ما تبقّى الآن. أو لعله تركها معلّقةً على شفتي لوحته الصارخة.
بين «الخيمة _ البركان» عند ناجي العلي عام 1961، و«الخيمة _ جواز السفر» عند تمّام عزّام عام 2013، هناك 52 عاماً من تلاقي المصائر الفلسطينيّة والسوريّة: تغريبة واحدة، ألمٌ واحد، تجاهلٌ واحد، وترقّبٌ واحد. «خيمة عن خيمة تختلف»، تقول أم سعد لغسان كنفاني، ثم يرتدّ الصّدى ليصرخ بعد عقود من تراكم الألم في جواز السفر هذا، وذلك الحبل الممتدّ القابض على أعناقنا.