منذ بداياته، اشتغل الرسام السوري نزار صابور (1958) على مواد وعناصر ومشهديات لها علاقة صلبة بالهوية المحلية وأسئلة الفن السوري المعاصر. من الطبيعة الساحلية في مسقط رأسه اللاذقية، تلقى دروسه اللونية والتكوينية الأولى، ثم تكفلت دراسته في دمشق باستئناف دروس أخرى من تجربة فاتح المدرس، وتولّت دراسته العليا في موسكو تعريفه بالخطوط والأشكال القوية في تعبيريات الفن الروسي الحديث وتجريدياته، بينما أخذته «تنقيبات ذاتية» متكررة في تراث المنطقة إلى جلجامش والواسطي والفن الأيقوني، إضافةً إلى التأليفات البصرية، التي قد تنشأ من هذه التأثيرات التي ظلت محكومة بممارسات تعبيرية حضرت في أغلب أعماله. معرضه «أيقونات تدمريّة» في «مارك هاشم»، هو إحدى الخلاصات الجوهرية في تجربته. خلاصاتٌ يمكن أن تنفتح على تحولات تجعل فكرة الخلاصة الثابتة جزءاً من شغل متحرك ومستمر.
يضم المعرض أعمالاً عُرضت قبل ثلاث سنوات، أو لعلها أعمالٌ مضافة إلى تلك التجربة، إلى جوار أخرى عائدة إلى مشروعات سابقة لا تنضوي تحت عنوان المعرض، ولكنها تصلح كعلامات على ممارسات سابقة لا تزال الأعمال الأحدث تتغذّى منها رغم اختلاف التجربة. الواقع أن الضربات التعبيرية والبحث عن مناخات محلية هما ما يجعلان حضور أعمال منجزة في فترات مختلفة أمراً ممكناً ومقبولاً. الأيقونات التدمرية هي جزء من مسار فني، فهي تقوّي صلة الفنان بفنون سوريا القديمة، وتشجّعه على استئناف علاقته مع هويته الثقافية، لكن كل ذلك يصلح أيضاً ذريعة لتجريب تقنيات مختلفة في إنجاز ما يبدو أنها طبعات جديدة ومعاصرة لمكتشفات المتحف التدمري والسوري عموماً. الوجوه السورية القديمة موجودة هنا لكي تخضع لعمليات محو وتعديل تسمح لها بالاحتفاظ بالملامح العامة، إلا أن قوتها المعاصرة تنبع من محاكاة نزار صابور لشغل أسلافه عبر صنع نوع من القرابة التقنية مع المواد التي استعملها الفنان التدمري القديم.
هكذا، تبدو الرؤوس والوجوه منفّذة برشّ بُرادة وحبيبات الرمل عليها. ربما استخدم الفنان نوعاً من الغراء لاستقبال موجات ذرّ الرمل، لكنه سمح بأن تلتصق بطريقة تتظهّر فيها أجزاء من الوجه المطلوب، وتُعفى أجزاء أخرى منه. تقنيةٌ مثل هذه تعزز علاقة الوجه الراهن بالوجه القديم، وتقوي علاقة الفنان مع تراث أسلافه، بينما تكتسب لوحته مذاقاً نحتياً نافراً. إنها رسوم منجزة بجرعة من روحية الرولييف، لكن ذلك لا يُرينا سُمْكاً واضحاً على سطح اللوحات. للحظات نحس أننا أمام نوع من الطباعة الحجرية، ويتعزز ذلك بوجود لوحات صغيرة ومنفصلة على شكل أختام دائرية تشبه تلك التي يستخرجها منقّبو الآثار. المذاقان النحتي والطباعي هما حصيلة تقنية خادعة تمنح اللوحات إحساساً بالعتق، والأهم أنها قادرة على تجسير المسافة الزمنية والتاريخية مع الوجوه والأيقونات التدمرية. مثل أسلافها، تتموضع أيقونات نزار صابور بشكل جماعي في بعض اللوحات، أو تحضر بشكل ثنائيات أو وحيدة في لوحات أخرى. أحياناً نراها على شكل مصفوفة هندسية، أو مربعات متتالية أفقياً أو شاقولياً. إنها أيقونات غير مكتملة، أو مكتملة على طريقتها هي، لكنها لا تتوقف عن بثّ انطباعات تعبيرية وتجريدية تعوم على أو تتنافس مع الانطباع التاريخي والأركيولوجي. التجريد حاضر أكثر في تلك الأعمال التي قلنا إنها لا تنضوي تحت عنوان المعرض، ومنها لوحتان بعنوان «أشلاء سورية» تؤرخان للتراجيديا السورية الراهنة. لوحتان تجريديتان تخلوان من الوجوه ومن الانطباعات الأيقونية، وتنتميان تقنياً إلى مرحلة سابقة، لكنهما جزءٌ من بحث الفنان عن حساسية شخصية تتحقق بالتجاور مع حساسيات أخرى، مجايلة لتجربته أو لاحقة عليها، داخل المحترف السوري.

* «أيقونات تدمرية» حتى 13تشرين الثاني (نوفمبر) ـــ «غاليري مارك هاشم» (وسط بيروت). للاستعلام: 01/999313


يمكنكم متابعة حسين بن حمزة عبر تويتر | @hbinhamza




دفاتر خشبية

رغم أن تجربته تكاد تخلو من تحولات دراماتيكية، اشتغل نزار صابور على أشياء متعددة. الفنان الذي تخرّج في كلية الفنون في دمشق (1981)، وحاز جوائز محلية وعربية، ظل مخلصاً لتقاليد راسخة في المحترف السوري، لكنه طوّر تجربته في مشاريع تخصّه. في معرضه البيروتي تتجاور الأعمال الأيقونية مع مرجعياتها الطباعية، وتحظى لوحاتٌ أخرى ببقع رملية وترابية تبدو كأنها مرحَّلة من المشروع التدمري، بينما يحظى التجريد التعبيري بحصص متفاوتة في الأعمال المعروضة، إلى جانب نماذج من Box set أو لعلها مقترح لـ «دفتر الفنان». أحدها بعنوان «كلمات»، وآخر بعنوان «حنين»، وثالث بعنوان «عنتر وعبلة».