«جهلة الأربعين» هو عرض لفصل من نصّ مسرحي طويل بعنوان Last of the Red Hot Lovers (1969) للكاتب الأميركي نيل سايمون (1927) الذي يعتبره بعض النقاد أهم كاتب كوميديا في تاريخ الأدب الأميركي. إلا أنّ ما يميّز نصوصه أنها تسلط الضوء على الوجع الإنساني في حياة الشخصية المهمشة رغم القالب الكوميدي. وقد يكون ذلك نابعاً من الحياة الصعبة التي عاشها الكاتب مع نفسه وفي علاقاته، إذ أنه تزوج خمس مرات. وفي مرحلة الطفولة، عانى من فشل زواج والديه ومن مشاهدة عراكهما المستمر الذي يصف أسبابه بغير المعروفة حتى الآن.
كما كان متأثراً بنجوم الكوميديا الصامتة أبرزهم شارلي شابلن. هذا المزيج بين حبه للكوميديا والمأساة التي عاشها في الطفولة ولّدت لديه قدرة على كتابة كوميديا ممتازة نابعة من ألم إنساني عميق.
يتناول سايمون في معظم كتاباته شخصيات مهمشة ومضغوطة وغارقة في مشاكل علائقية. لذا يكتفي في الكثير من أعماله بتقديم ثنائيات على الخشبة. يعرض الكاتب في هذا النص شخصيتين (غيرت المخرجة سيلين حلبيان اسميهما) هما «سليم» الزوج المخلص الخجول والبريء، والشابة الجميلة «كوكي» الجريئة جداً في أحاديثها عن الأمور الجنسية التي تفضح سهولة قبولها لاقتراب الرجال منها. بعد عرض الموقف الكوميدي الذي ينتج من لقاء هاتين الشخصيتين المتناقضتين وفشل سليم في الاقتراب منها، رغم محاولاتها المتكررة للتحرش به، ينقلب الموقف الكوميدي في الظاهر الى موقف مأسوي في الباطن. تفصح الشخصيتان من خلال هذا اللقاء الفاشل عن حقيقة دوامة العذاب التي أودت بهما الى هنا. تسقط الأقنعة وتكشف كل شخصية عن حقيقتها المشوّهة وأسبابها التي تعود الى معاناة في الطفولة مع طريقة تربية الأهل لها. اتضح أنّ خجل الرجل هو نتيجة عقدة نفسية كانت قد تسببت بها والدته بعدما عنفته جسدياً لدى اكتشافها أنه مارس الجنس مع مومس ثمّ فرضت عليه الزواج من ابنة الجيران. وبذلك، تكون قد حكمت عليه بسجن الروتين مدى الحياة. أما «كوكي»، فقد كانت ضحية اغتصاب والدها الذي كان يعتدي عليها مراراً وتكراراً منذ سن العاشرة تحت أعين والدتها التي لم تحرك ساكناً بل هي الأخرى تعمل في الدعارة. لذلك يبحث سليم عن مغامرة تحرره من السجن كما تبحث «كوكي» في ملاحقتها للرجال عن الحب والأمان الذي لم تجده لدى والديها. لكن يخيب ظنها عندما تكتشف أن جميع الرجال لا يريدون منها سوى الجنس، ولن يؤمّن لها أحد الحب الذي افتقدته. بعد سقوط الأقنعة، لا يبقى سوى مواجهة الحقيقة البشعة داخل كل منهما، فتقرر «كوكي» الانسحاب من دون أن نعرف الى أين ستودي بهما مواجهة الحقيقة تلك. هل سيكملان الطريق نفسه؟ هل تحدث هذه المواجهة تغييراً في حياتهما؟ بذلك، يكون سايمون قد طرح وقع التأثير السلبي الذي تخلّفه معاملة الأهل السيئة لأطفالهم في تكوُّن عقد نفسية تؤدي الى زعزعة علاقة الإنسان مع نفسه ومع الآخر مدى الحياة. نشعر بأننا أمام كاتب يمسك بزمام علم النفس لأنه يرجع ما تعانيه الشخصيات في الحاضر الى عقد الطفولة في الماضي بشكل مباشر.
في العرض البيروتي الذي شاهدناه على خشبة «دوار الشمس»، تمكنت الشابة سيلين حلبيان خريجة معهد الفنون الجميلة في تجربتها الإخراجية الأولى من إدارة تمثيل محكمة ساعدت الممثلين باسكال فرح وغسان الحداد على إتقانهما أداء الشخصية المنمطة ورسم تفاصيلها بشكل مقنع وكوميدي صادق مع لغة جسمانية مدروسة، ما أدى الى تفاعل الحضور بشكل متواصل طوال العرض.
شكّل الممثلان دويتو موفّقاً من خلال الحفاظ على أسلوب متجانس في اللعب الأدائي الكوميدي. بالتالي، تكون حلبيان والممثلون قد أمسكوا بالمفتاح لإنجاح العمل لأنّ تركيب الشخصية وعلاقتها بالآخر يعتبر الأساس الذي يبني عليه سايمون نصه. وقد يكون من أصعب الخيارات التي تواجه المخرج في نصّ مماثل هو تحوّل الموقف الكوميدي بما فيه من خصوصية كوميدية من حيث طبيعة الأداء الى موقف مأسوي بما فيه من خصوصية مأسوية من حيث طبيعة الأداء. شأن المخرج والممثل أن يحافظا على استمرارية الصدق في الأداء رغم تغيّر طبيعته. وقد تمكن فريق العمل من تأدية هذه المهمة الصعبة الى حد ما، إلا أنه كان يمكن أن يأخذ التحول في الأداء وقتاً أطول لكي يكون أكثر إقناعاً للمُشاهد. فقد جاء التحول في الأداء سريعاً جداً ومنقطعاً بشكل مفاجئ عن كل ما شاهدناه من قبل. لذا أخذ المُشاهد بعض الوقت لتصديق المأساة والتعاطف مع الشخصيتين. كما أنّ صوت الممثلين في هذا الجزء من العرض كان بالكاد مسموعاً، ففاتت المُشاهد بعض الجمل في فهم معلومات هامة عنهما.
«جهلة الأربعين» عرض مسرحي مسلٍّ ومضحك ذو موقف إنساني دفين يبشر بمخرجة واعدة أثبتت جدارتها على صعيد إدارة التمثيل في القالب الكوميدي، على أمل أن تنضج تجربتها في العمل المقبل من حيث تطوير أدواتها المتعلقة بالعناصر الإخراجية الأخرى كالتعاطي مع سينوغرافيا أكثر ديناميكية.

«جهلة الأربعين»: 20:30 مساء حتى يوم غد ـــ «مسرح دوار الشمس» (الطيونة ـ بيروت) ــ للاستعلام: 01/381290



من برودواي إلى بيروت

اُفتتحت مسرحية Last of the Red Hot Lovers للأميركي نيل سايمون للمرّة الأولى في برودواي على خشبة مسرح «يوجين أونيل» عام 1969، واستمرت لمدّة عامين وعرضت أكثر من 700 مرّة. تدور القصة حول رجل في متوسط العمر أراد الانضمام إلى «الثورة الجنسية» التي انتشرت في الغرب منذ الستينيات إلى ثمانينيات القرن الماضي. في النص الأساسي، يحاول الرجل إقامة علاقة مع ثلاث نساء، إلا أنّ محاولاته تبوء بالفشل فينتهي به الأمر بمحاولة إغراء زوجته. اقتبس الكاتب النص مجدداً ليحوّله إلى سيناريو فيلم سينمائي عام 1972 من إخراج الأميركي جين ساكس (1921) الذي كان قد أنجز أعمالاً مقتبسة عن نصوص مسرحية أخرى لسايمون. وعلى خشبة «دوار الشمس»، يقدّم حتى يوم غد فصل واحد من هذا النصّ بتوقيع سيلين حلبيان.