صنعاء | تبدو بشرى المقطري (1979) دقيقة في اختيار عناوين أعمالها الأدبية. لا تهوى الخوض في لعبة الغموض، بل تتعمد الذهاب إلى المعنى العريض مباشرةً. من مجموعتها القصصية الأولى «أقاصي الوجع» (2004) وصولاً إلى روايتها الأولى «خلف الشمس» (المركز الثقافي العربي ـــ بيروت)، تكثّف عناوين المقطري حالة «الوجع» لوطن تقيم آلام أفراده وأوجاعهم «خلف الشمس» ولا يراها أو يقدر على روايتها أحد.
على هذا النحو الواضح، تخوض الكاتبة اليمنية الشابة لعبتها السردية. لن تكون مهمّتها سهلة وهي تبحث في أوراق السنوات الخمسين الماضية وتنقّب عن قصص المعتقلات والإخفاء القسري «خلف الشمس». حكايا تقع في خانة المسكوت عنه بتواطؤ ضمني، أحياناً بين ضحايا تلك الفترة وجلّاديهم الذين ما زال بعضهم على قيد الحياة السياسية اليمنية. مع ذلك، يمكن التقاط عدد من الضحايا الذين نجحوا في العودة إلى الحياة ورواية بعض ما حصل معهم «خلف الشمس». وبناءً عليه، سيكون منطقياً أن تكتفي المقطري بثلاث شخصيات ستكون لسان حال حقبة ألم وأوجاع بكاملها، إذ «يستحيل احتواء عمل روائي لأكثر من هذا العدد، حيث أرى أنّ المعنى المراد إيصاله سيشتّت الصورة المطلوب إظهارها واضحة» تقول صاحبة العمل.
هكذا، سنتعرّف إلى يوسف الأكاديمي واليساري، المتعتق بنظريات الماركسية وأفكار المثقف العضوي، المرابط على رصيف القضية الشعبية، وشعارات الحزب الاشتراكي، الذي يبدو مخلصاً له كمؤمن صارم حدود العمى، فلا يعود يرى حقيقة الطريق الذي يسير عليه بعض الرفاق. هؤلاء سيخدعونه ويهربون من السفينة قبل غرقها، والاتجاه إلى الجنوب ومنه إلى الخارج، بعد خسارة الحزب حربه مع نظام الشمال القبلي في صيف 1994. يبقى يوسف وحده في مواجهة صواعق المعتقلات وسياط جلادين لا يعرفهم، يضربونه ليل نهار ويسلخون جلده بسبب تهم لا علم له بها. بعد خروجه، سيختار الخمر وسيلة شفاء تجعله ينفرد بنفسه ليلاً ليعيد بصوت مرتفع شعارات الحزب. سيحتاج إلى وقت طويل ليفهم أنّ الوحدة بين الشطرين كانت لتحقيق مصالح البعض، ولم يكن الوطن في الحسبان. تبدو بشرى صارمة وهي تفكّك وضعية الحزب الاشتراكي في تلك الفترة، وهو الحزب الذي تنتمي إليه تنظيمياً لكنّها تقول «لا بد من طرح ما حصل بصوت مرتفع كي يسهل إصلاح ما انكسر».
هكذا نرى كيف تأتي «خلف الشمس» على هيئة طرقة أو طرقات أولى على باب الألم اليمني المُغلَق على أطنان من حكايات سوداء للناس العاديين. حكايات تروي وقائع مسكوتاً عنها لا يجري تداولها بصوت مرتفع بين النخبة والعامّة والأسباب كثيرة: القهر السياسي، وتواطؤ المثقفين، والعادات الاجتماعية، والعهر الحزبي المدعوم بواجب تنفيذ أوامر القيادات العليا وعدم المساس بها، وقبل ذلك كله رجال الدين. لا تبدو المقطري مهادنة في رواية ما جرى خلال السنوات الخمسين وتقديمه في قالب فاجع يخلو تقريباً من عثرات العمل الروائي الأول.
في جهة مقابلة من شخصية يوسف، سنرى يحيى، وهو جندي شمالي من عجينة قبلية يتمنى الاستشهاد من أجل الوطن، ويُرفع له تمثال في وسط المدينة. تأتي حروب نظام علي عبد الله صالح ضد أبناء منطقة صعدة أصحاب المذهب الشيعي فرصة كي يلمس ما يتمناه. يخوض الحرب الأولى فقط ليكتشف الخديعة مباشرة، «ليست هذه الحرب التي أريد». الجثث في كل مكان بمجانية غير مفهومة. هو لا يقوى على إطلاق رصاصة واحدة. يتمكن من الفرار من المعركة ليصبح في مواجهة حكم إعدام، لكن دعامته القبلية تنجح في تخفيف الحكم إلى ثلاث سنوات في السجن. يعود إلى الحياة غارقاً في التيه وقد سيطرت جماعات الدعوة الأصولية على كل شيء. يبدو الانتحار حلاً لكنّه لا يقوى على ضغط الزنّاد، فيما يخشى العودة إلى بيته ليلاً. يعتقد أن زوجته تخونه وتسعى إلى قتله، فلا ينام إلا ومسدسه تحت رأسه مستعداً لإطلاق رصاصته في أي لحظة. زوجته ستكون الشخصية المكمّلة لإطار العمل. لا اسم لها، مجرد «حرمة» بلا وجه ولا هوية. والدها مخفي قسرياً إثر حروب الرفاق في 1986 التي عرفت كواحدة من الحروب العشر التي هزّت العالم. تعيش مع زوجها الغائب عن الحياة عملياً. وبناءً عليه، تبدو وحيدة تماماً، إضافة إلى عجزها عن الإنجاب. تكتفي بالكتابة كعلاج وتخفيف حالة احتياج جسدي قاس وعزلة وكبت، وموت قريب. هنا، لا يبدو من كاتبة العمل أي صوت نسوي متحيز للشخصية، لا تعاطف بقدر ما تحتاج إليه الشخصية المجروحة من إيضاح لألمها الشخصي بعيداً عن أي تحيّز على أساس النوع.
من الطبيعي والحال هذه ألّا نرى أي نهايات سعيدة. الوجع يحيط بأيام الشخصيات. نكاد نسمع صوتها مكتوباً في قالب واحد، حيث لا فصول ولا أجزاء في العمل. أتت الرواية من أولها إلى آخرها مصبوبة في قالب واحد تؤكد المقطري أنّها تعمّدته كي يبقى كل صوت متصلاً. بالتالي، يظهر الألم الجمعي ناطقاً بذات اللسان الموجوع سائراً في سياق واحد هو العنوان الرئيس لحياة الجميع وبصوت مرتفع: «لا يمكن أن نُشفى من دون حكاية ما جرى» تقول المقطري.