التواتر بين الصوت والصمت، المتحرك والجامد، الضوء والعتمة، حتمية اليأس والأمل... يمزج المخرج والسيناريست الفرنسي برونو دومون (1958) ببراعة كل هذه التناقضات في فيلمه «كاميّ كلوديل 1915» (2013)، ليقدم عملاً فريداً من نوعه أشبه بالهندسة السينمائية للجنون. الفيلم الذي يتناول جزءاً من سيرة النحاتة الفرنسية كامي كلوديل (1864ـ 1943) ويُعرض للمرة الأولى ضمن «المهرجان السينما الأوروبية» في «متروبوليس أمبير صوفيل»، هو بخلاف العمل الذي قدّمه برونو نايتن عام 1988 ولعبت بطولته إيزابيل أدجاني في دور كامي، وجيرار دوبارديو في دور رودان.
لا يمرّ شريط برونو دومون على مراحل مختلفة من حياة النحاتة، بل تدور جلّ أحداثه في المصحة العقلية التي أجبرتها عائلتها على دخولها عام 1913 ولم تخرج منها حتى مماتها. صحيح أنّ هذا الخيار المثير للجدل يغفل جوانب مهمة من مسيرة كامي كلوديل الفنية والحياتية، فلا يصوّر عملها كنحاتة ولا علاقتها العاطفية برودان، إلا أنّه ينجح في تقديم فيلم مختلف وصادم بقسوته المجردة. مثلاً، المشهد الوحيد الذي يصوّر علاقة كامي بالنحت هو حين تأخذ حفنة من الرمل الرطب وتحاول تشكيلها بين يديها ثم ترميها بعنف على الأرض وتكمل طريقها. ولعل أكثر ما ينجح في تصويره الفيلم هو الجنون بحد ذاته وديناميكيته في قلب هذه المصحة العقلية المنعزلة والهادئة التي تبدو كأنها من خارج هذا العالم.
الأمر الوحيد الذي يعيد الأمل لكامي في ظل الجحيم الذي تعيشه هناك، هو زيارة أخيها الكاتب بول كلوديل المنتظرة الذي تظنه سيأتي لإنقاذها وإخراجها من المصحة. تلعب جولييت بينوش دوراً صعباً لكنها تنجح في تجسيد شخصية كامي كلوديل في صراعاتها الداخلية الصامتة وتفاعلها مع المرضى الآخرين الذين يجسدون بحالاتهم الذهانية المستعصية أسوأ مخاوفها ورعبها من أن تفقد ذاتها كلياً وتتماهى معهم، هم الذين يحاولون بشتى الطرق التقرب منها رغم رفضها لهم. كأنهم حرّاس الجنون يحاولون غوايتها لتستسلم له كلياً. ذلك الرعب من الجنون ينجح المخرج في تجسيده بمشهدية سينمائية خاصة يصور فيها الإيقاع البطيء للحياة اليومية في المصحة وجماد المكان والطبيعة المحيطة به وتحركات البشر المنتظمة والمتكررة داخل الدائرة المفرغة نفسها. الكادرات تبدو كأنها مصمّمة بطريقة هندسية على نمط المتاهة، لتؤكد على عدم جدوى الحراك. يبدو الأفراد محاصرين بالجماد المحيط بهم. يوظف المخرج ذلك في تناقض مع أمل كامي بالخروج من المصحة الذي يتجدد مع زيارة أخيها المترقبة، أملٌ تنفيه اللغة السينمائية وتؤكد استحالته.
ينجح الفيلم إلى حد ما في استكشاف كلّ الغموض الذي يحيط بحياة كاميّ كلوديل وأسباب تدهور حالتها النفسية، مما أدى إلى سجنها في المصحة لبقية حياتها. من جهة، يحاكم الفيلم المجتمع الذكوري التقليدي المسيحي متمثلاً بعائلتها وأخيها بول كلوديل، لكنّه من جهة اخرى لا ينفي جنون الارتياب الذي أصابها وقد نبع بشكل أساسي من علاقتها بالنحات الفرنسي أوغست رودان الذي كان يكبرها بـ 24 سنة، وتشابه أعمالهما الفنية في المرحلة التي كانا فيها على علاقة، إذ اتهمته بسرقة أفكارها والتآمر لقتلها. لكن الفيلم لا ينصف تماماً كامي كلوديل في هذا الخصوص. رغم أنّ كثيرين فسروا هذا الشبه بتأثر كامي بمعلمها رودان واتهامها بنقل أعماله، إلا أن السيناريو الأكثر واقعية أنّ الإثنين قد تماهيا مع بعضهما في أعمالهما. يشهد على ذلك تشابه بعض منحوتات رودان مع أخرى نحتتها كلوديل قبله كمنحوتة «غالاتيه» (عام 1889) التي تذكر بشكل واضح بمنحوتة «الصبية مع الإكليل» لكلوديل (1887). وقد يكون جنون الارتياب المترافق مع جنون العظمة الذي أصاب كامي نابعاً من إحساسها بالظلم وكرد فعل على المجتمع الذي لم ينصفها ولم ير فيها سوى ظل رودان. وقد تكون أيضاً طبيعة المرض الذي أصابها سبباً إضافياً لقسوة المجتمع الذكوري وعائلتها والمبالغة في خطورته. لو كانت رجلاً، ما كانت لتحاكم بهذا العنف لاتهامها رودان بسرقة أعمالها وأفكارها، لكن أن تدعي امرأة ذلك، فهي مجنونة حتماً تستحقّ السجن مدى الحياة.

فيلم «كامي كلوديل 1915»: 20:00 مساء 26 تشرين الثاني (نوفمبر) ــ «متروبوليس أمبير صوفيل» ـــ للاستعلام: 01/204080



جوائز برونو دومون

في العام 1997، قدّم برونو دومون باكورته الروائية الطويلة «حياة يسوع» الذي نال جائزة «جان فيغو» في العام نفسه. وفي عام 1999، نال فيلمه «الانسانية» جائزتي أفضل تمثيل والجائزة الكبرى في «مهرجان كان السينمائي الدولي». كما نال فيلمه Flandres الجائزة الكبرى في «مهرجان كان» عام 2006. وعن اختياره جولييت بينوش لأداء دور البطولة في فيلمه الجديد «كامي كلوديل 1915»، أجاب: «لطالما جعلت من المزارع مزارعاً، ومن الفنانة فنانةً. الممثلة جولييت بينوش ساعدتني في الإحاطة أكثر بكامي كلوديل في هذا العمل».