«المجهول الذي ينتظرنا هل يعرف أنّه ينتظرنا؟». لم يكن الموعد مرتّباً. أن يلتقي أنسي الحاج وعصام محفوظ، بعد كل هذا العمر، هنا، عند نضال الأشقر، ذات أمسية غريبة منذورة لنشوة الغياب، لموت باسمٍ، رقيق ونوراني، تصفّى من حمولته، فلم يبقَ منه إلا صفاء الرؤيا. عصام عرّج على «ستيريو 1972» بعيد ذكرى رحيله العاشرة التي مرّت في شباط/ فبراير الماضي. لعلّه يفعل ذلك كل مساء. جاء يرتشف كأساً ربّما مع الممثلين والممثلات الذين يقدمون مسرحيّته ــ الوصيّة. أو لعلّه جاء يتفقّد رفاقه سرحان بشارة سرحان وفرج الله الحلو وأنطون سعادة. إنّه هنا في بيته، في ديكوره بالأحرى. ديكور مسرحيّة «لماذا…؟» التي تقدّمها لينا خوري هذه الأيّام في «مسرح المدينة». لكنّه لم يكن يتوقّع أن يلتقي بأنسي على الخشبة نفسها، في الديكور نفسه، بعد كل هذه السنوات على «شعر»، وعلى «النهار»، وعلى بيروت حين كانت «فايمار» العرب، وعلى الغياب… كانت ثلاث نساء مميّزات قد تسللن إلى المسرح في الذكرى الثانية لرحيل صاحب «لن»، ليلة الأربعاء. ثلاث نساء، ابنته الشاعرة ندى الحاج، حفيدته الممثلة النادرة يارا بو نصار، والسوبرانو المتصوّفة هبة القوّاس، جئن يحتفين بصدور كتابات غير منشورة له عن «دار نوفل»، تحت عنوان «كان هذا سهواً». لم يحرّكن ديكور «لماذا»، بل تموقعن فيه بخفّة، ليكتبن حكاية داخل الحكاية… «في لحظات العبور من الحياة إلى الموت يتصاعد قاع الذاكرة إلى أديمها وتتلألأ الصور الأشدّ بساطة من كلّ ما كان يُظَنّ».
احتفال طقوسي بالصوت والصورة والفيديو، إلقاءً وتجويداً وغناءً وعزفاً، اختزن كثيراً من الشعر والتأمّل والانفعال. جلس عصام محفوظ معنا في الصالة، ليتابع تكريم زميله اللدود. إنّها أجمل المصالحات على مسرح الذاكرة. «الحياة هي هذا الاستعداد الكامل والهائل والدائم لحدوث الحياة». على شاشة الفيديو كرّت لقطات من الأرشيف، نادرة، لأنسي الحاج يقرأ شعره. لم نتفرّج عليه، تفرّجنا على وجوهه المتغيّرة، على أعمارنا العالقة هناك بين الكلمات… ثم، بتواتر عفوي ومنظّم تعاقبت ندى ويارا على تجسيد تلك الصور والتأملات الهاربة، المغمّسة بالموت، والمسكونة بحدس النهاية. «في تلك الأمسية/ جاءني الله/ وأنا لا أنتظره/ ولا أنتظر شيئاً ولا أحداً/ جاءني ولم يعد يفارقني». مادة الكتاب المبعثرة التي جمعتها ندى كمن يعيد امتلاك أبيه، في النص وفي الحياة، تنطوي على بعد رؤيوي، وحكمي، وميتافيزيقي مدهش. «أقول إنّي ذاهب إلى العدم». إنّه الشاعر الذي رأى غيابه. كان أنسي الحاج يخاطبنا من عالم آخر، لعلّه الماوراء، أو ببساطة مكان سامٍ لا يبلغه إلا الشعراء.
نقرات البيانو والأكّورات والجمل الموسيقيّة رصّعت الاحتفال، وانفلاتات صوت هبة القواس كانت تتحدّى القصيدة وتستفزّها أحياناً. أنسي كان كلّه هنا، بتلك اللغة الصافية والمكثفة والمترقرقة، هو «الذي عرف جنون اليأس وعرف أيضاً سلامه». غارت يارا عميقاً في الشعر، تقمّصته: «احفِرْ في الهاجس/ تابعِ الحفر،/ حتّى ينبجسَ اللبّ من الطرف الآخر./ فإما جوهرة، وإما فرَجُ الفراغ». في بعض اللحظات كان يتقاطع صوت العرافتين، وتنضم المغنية إلى الحلقة. هكذا حتّى الذروة، مع قصيدة «غيوم». الشاعر إذ رأى نفسه تتلاشى في البياض. بعد القارئتين، المغنية: أدتها بصوتها الكريستال، فمزّقت طبقات الحزن السميكة: «غيوم، يا غيوم/ باركي الملعون السائرَ حتّى النهاية/ باركيني/ علّميني فرحَ الزوال». التفتنا حولنا. كان عصام قد اختفى. وأنسي أيضاً. «الموتى أصدقاء يبتسمون».