القدس المحتلة | [إلى مصطفى إبراهيم صاحب «المانيفستو»]يشاء القدر أن أكتب لك في يوم هو الألم مجسّداً. فليس في كل يوم تستقبل الأرض شاعراً، كما أن إرجاع شاعر إلى التراب ليس بالأمر الهيّن. وعلى كثرة ما يتخيّل خيالي، فإني لا أتصور أحمد فؤاد نجم ميتاً. يمكن لي أن أتخيله مطلّاً على مشيعيه بتعليق ساخر أو ممازحاً «التربي» الذي حفر قبره. كل ذلك ممكن ولكن لا أتخيله وديعاً مستسلماً. كما أني لست الوحيد الذي فوجئ اليوم أنه ابن 84 سنة. فحتّى إطلالالته الأخيرة، والوهن باد على صحته، ظلت فيها فتوة الشباب بل ومسحة طيش تحول دون حسابه من الشيوخ.
أتذكّر كم كانت تسحرني «بذاءته» وأرى «الأدب» كلّه فيها.

هل تذكر هجاءه لأم كلثوم؟ كلا، ليس تلك القصيدة التي يعرفها الجميع عن «كلب الست» الذي عضّ فتى فحبسوا الفتى حين علمت الشرطة أن غريمه كلب أم كلثوم. ولكن أقصد تلك الهجائية في «الفوازير» التي يعنيها بها: «يا وليه عيب اختشي يا شبه ايد الهون/ دنتي اللي زيّك مشي يا مرضَّعة قلاوون» وقلاوون كما تعرف أحد حكام مصر في العهد المملوكي. تصوّر اللؤم. تصوّر أن هناك من كان بإمكانه أن يقول هذا الكلام عن أعظم مغنية عرفتها مصر والعرب وربما العالم. (في ساعات يأسي المطبق أقول لنفسي إن حياتي لم تكن فظاظة كلها وإني عرفت السعادة في ساعات سماعي لصوت أم كلثوم).
في مرة، استدعت أم كلثوم نجم للقائها في بيتها، وهو أمر لم تكن تفعله كثيراً، تلك السيدة الأشبه بقلعة عالية الأسوار. حين دخلتْ عليه في الصالة أشارت بإصبعها نحوه من فوق إلى تحت وقالت مع ابتسامة: «هو إنتَ»؟(روى نجم القصة في لقاء تلفزيوني) طلبت منه أن يكتب لها أغنيات. أمعن في بذاءته؛ قال لها: أنا لا أكتب لأحد، قصائدي عندك. غفرت له «كلب الست» ولكن لم تغفر له تبجّحه. انتهت المقابلة. ولم تغن له «الست». تخيّل ماذا كنّا سنكسب لو غنّت أم كلثوم قصيدة أو بضع قصائد من «الفاجومي»؟
وعودة إلى تلك الهجائية اللئيمة التي كتبها لأم كلثوم، فإن عظمة الثقافة المصرية برأيي هي أنها كانت قادرة على إنجاب أم كلثوم وقادرة على الإتيان بأحمد فؤاد نجم الذي في لحظة ما قام بهجائها. لأسباب مبدئية كما زعم لاحقاً؛ حسّه بالعدالة الاجتماعية في «واقعة الكلب» كان أعلى من شغفه بفنّها و«عبادته» لصوتها. كان يدرك أكثر من أي إنسان معنى هذا «الكيان العظيم» الذي تشكله «الست»، لكنه كان نفسه ولا يمكن أن نلومه على ما كتب.
لا يمسّني شيء أكثر من الراديكالية، وخصوصاً حين تكون خاسرة، ولولا الراديكالية لما كانت الحياة تستحق أن تعاش. الشعر مسّ من الراديكالية. ولكنها أحياناً، بل وكثيراً ما تشطح. فأم كلثوم التي قال فيها نجم في لحظة طيش: «مدحتي عشرين ملك وميت وزير ورئيس/ وعبد الملك والمفتري وعتريس» هي مغنية تحرر وطني من أرفع مقام ولعلها من أفضل ما صار للعرب في تاريخهم المعاصر. لكن الراديكالي وخصوصاً في صباه قليل صبر. ونحن نحبّه رغم ذلك بل لأجل نزقه، لأننا نعرف أن هذا النزق حب أبكم وأن البذاءة طريقة في الدفاع عن الإنسانية حين تكون مهددة.
أما قيمته الشعرية، فلنترك الكلام فيها للنقاد، الذين لو انتبهوا لقالوا إنّه خلاصة وتتويج جهد شعراء العامية المصرية، ولو أنصفوا لقالوا إنه أهم شاعر مصري بعد أحمد شوقي. هويته المصرية والعربية، أُمميته، موضوعاته، تقدميته، موقفه الطبقي، ثوريته، لغته الشعرية الخصبة الثرية المتنوعة، اتساع مساحته الإيقاعية ورونق جملته الأخاذ، سخريته، تناقضاته أيضاً. كل ما سبق، جعله من هو.
سيطيب لي أن أتخيل جنّةً يدخلها نجم فَزِعاً منقبضاً بجلّابيته. وأتخيل الست هناك في أعلى مقام (مثلما كانت على الأرض) تشير نحوه بإصبعها من فوق إلى تحت وهي تكتم ابتسامة ممتلئة: «هو انتَ، تاني؟».