القاهرة | خرج المثقفون المصريون ظهر أمس لوداع أحمد فؤاد نجم (1929 ــ 2013) من «مسجد الإمام الحسين» إلى «مقابر الغفير» في «السيدة عائشة». جنازة أرادوها شعبية على بعد خطوات من حوش قدم في الغورية، المكان الذي شهد الولادة الحقيقية لموهبة «الفاجومي». كان بإمكان خبر الموت أن يكون شائعة كما اعتاد انصاره، لولا أنّ مقربين من الشاعر، وعلى رأسهم الناشر محمد هاشم، أكدوا الخبر على صفحاتهم عبر مواقع التواصل الاجتماعي فجر أمس حين توفي عن 84 عاماً، أمضى أغلبها مطارداً من السلطات. كذلك أكد التلفزيون الرسمي خبر الوفاة من دون تفاصيل أخرى، فيما تحدّث مقربون منه أنّ الوفاة جاءت نتيجة عارض صحي لم تتحمله شيخوخته. تحدّث مشيعون عن التوقيت الحرج الذي غادر فيه «الشاعر البندقية» الذي أعلن أخيراً أنّ مصر «ستعلنها ثورة ثالثة». أكثر ما لفت في طقس الوداع أنّ «الفاجومي» غادر مطمئناً إلى أمرين: الأول يتعلق باستمرار الثورة ممثلة في إصرار ابنته الناشطة نوارة التي بدت منهارة في التشييع أمس وجيلها، والثاني يتعلق بتكريسه شاعراً كبيراً، هو الذي عاش على الهامش، فصنع متنه الخاص. الأغرب أن يأتي هذا التكريس من الغرب حيث نال «جائزة الأمير كلاوس» الهولندية (الأخبار 14/9/2013) تقديراً لمسيرته التي ألهمت ثلاثة أجيال من المصريين والعرب، وتميّزت بحس نقدي ساخر «بتأكيدها الحرية والعدالة الاجتماعية»، لكن الموت لم يمهله لتسلّمها في 11 من الشهر الحالي. مقابل هذا الاحتفاء العالمي، لم ينل نجم أي جائزة من الدولة التي نظرت اليه كشاعر «خارج عن النص» حتى سنواته الأخيرة. عاش حياة غير عادية بتعبير صلاح عيسى الذي أرّخ لحياته في نص متميز بعنوان «شاعر تكدير الأمن العام»، حيث تتبع تحوّل نجم إلى أيقونة مرادفة لمعنى الثورة الذي ظل منشدها، منذ أن قرّر الكتابة بالعامية على خطى أستاذه بيرم التونسي. هكذا، أفرز نصوصاً اعتمدت كلياً على النقد الاجتماعي والسياسي، وكانت أقرب إلى بيانات الهجاء منها إلى الشعر في بداياته الأولى. وكان بإمكانه أن يظلّ زجّالاً لولا التحولات التي عاشها ودفعته إلى خوض تجارب خشنة سعى إلى تأملها في كتابات زاوجت بين الهم العام والخاص. ولد في 23 أيار (مايو) 1929 في قرية كفر أبو نجم في مدينة أبو حماد (محافظة الشرقية ــ دلتا مصر) بين 16 شقيقاً آخرين. بعد وفاة الأب الذي كان ضابط شرطة «مشاغباً أحب نجم لأنّه كان الأشد قبحاً بين إخوته» كما قال الشاعر مرة، عاشت الأسرة ظرفاً اجتماعياً قاسياً انتهى بالتحاقه بملجأ أيتام عام 1936 حيث تزامل مع المطرب الراحل عبد الحليم حافظ، ليخرج عام 1945. بعد ذلك، عاد إلى قريته ليجرّب مهناً هامشية كثيرة وضعته في أسفل السلم الاجتماعي في لحظة تاريخية مفصلية عاشتها مصر قبل 1952 مع احتدام التناقضات التي جعلت «ثورة يوليو» حدثاً ضرورياً أعطى لنجم فرصة اكتشاف حقيقة وضعه الطبقي.
خلال تلك السنوات، تعرّف إلى مجموعة من العمال الشيوعيين وفّروا له فرصة قراءة روائع أدبية تؤكد فكرة الالتزام التي لازمته طوال حياته، وأبرزها رواية «الأم» لمكسيم غوركي التي قال إنّها «ارتبطت ببداية وعيي الحقيقي والعلمي بحقائق هذا العالم والأسباب الموضوعية لقسوته ومرارته».
توّج نجم هذه المرحلة بالعمل في وزارة الشؤون الاجتماعية طوافاً لتوزيع البريد في فضاء اجتماعي وجغرافي كشف له حجم التناقضات الطبقية في مصر، مدركاً أنّ القضية الوطنية لا تنفصل عن القضية الاجتماعية. بعد اندلاع ثورة ١٩٥٢ وصدامها الأول مع خميس والبقري عاملي «كفر الدوار» الشهيرين، واجه نجم للمرة الأولى عشقه للثورة بأزمة طاحنة تفاقمت مع صدام السلطة مع اليسار، إذ وجِّهت له للمرة الأولى تهمة التحريض على السلطات، وهي تهمة رافقته حتى نهاية الثمانينيات.
في تلك السنوات البعيدة، عاش صاحب «يعيش أهل بلدي» فترة شديدة التعقيد، إذ وجهت إليه تهمة الاختلاس، ووضع عام 1959في السجن 33 شهراً. وفي السنة الأخيرة له، أي عام 1962، شارك في مسابقة ينظمها «المجلس الأعلى لرعاية الآداب والفنون» وفاز بجائزته، فصدر ديوانه العامي الأول «صور من الحياة والسجن»، وكتبت مقدمته الناقدة الشهيرة سهير القلماوي ليشتهر وهو خلف القضبان.
بعد خروجه، سعت الدولة إلى ترويضه. عيّنه الكاتب يوسف السباعي موظفاً في «منظمة تضامن الشعوب الآسيوية الأفريقية» على أمل استئناسه بـ«حظيرة الدولة»، غير أنّ تعرّفه إلى الشيخ إمام عبر المناضل سعد الموجي أدخله تجربة كانت الأغنى في حياته وصنعت هذا التحول الدرامي الذي وضع شعره على طريق الخلود ضمن تجربة استمرّت حتى عام 1984 مع الشيخ الضرير. قبل هذا اللقاء، لم يكن الشيخ إمام قد لحّن أغنيات خارج التواشيح الدينية، متابعاً فيها سيرة أستاذه زكريا أحمد، إلى أن أعطاه نجم أغنية عاطفية هي «أنا توب عن حبك أنا» التي يسمّيها نجم «البكرية» وكانت نقطة البداية في مشوار استمر ربع قرن، وشهد فترات مدّ وجزر. عاشا معاً في بيت صغير في حارة خوش قدم (معناها بالتركية قدم الخير) ودفعت بهما الأزمة السياسية التي عاشها النظام الناصري في علاقته بمعارضيه إلى تقديم أغنيات احتجاجية، واشتهرا كثنائي غاضب صاغ بالأغنيات خطابات الرفض والمعارضة للنظام الناصري بعد النكسة. وكانت أغنية «الحمد لله خبطنا تحت بطاطنا» التي سمّيا فيها عبد الناصر بـ«عبد الجبار» كفيلة بإدخالهما السجن وتمضية ثلاث سنوات وراء القضبان انتهت بالإفراج عنهما بعد وفاة جمال عبد الناصر. ورغم دخول نجم السجن تسع مرات، إلا أنّ الفترة الأطول التي أمضاها وراء القضبان كانت في عهد عبد الناصر، ومع ذلك فقد رثاه بقصيدة «زيارة لضريح عبد الناصر» وظل يدافع عنه أمام منتقديه. ورغم محاولات النظام الناصري امتصاص الظاهرة في قنواته الرسمية، إلا أنّ احتضان الحركة الطلابية المصرية للثنائي صان التجربة وتحولت أغنيات «بهية»، و«حاحا»، و«يا محلا راجعة ضباطنا»، إلى أقوى حزب معارض في مصر، وخصوصاً في عصر السادات الذي سمّاه نجم «شحاتة المعسل»، وتحول بعد هذا المسمى إلى «شاعر تكدير الأمن العام» بتعبير صلاح عيسى. لعبة القط والفأر مع النظام بلغت ذروتها خلال حكم السادات الذي سمى نجم «الشاعر البذيء». ثم نجح حسني مبارك في إبعاد نجم عن الصدام المباشر إلى أن جاءت «ثورة 25 يناير» وقرر الشباب أنّهم «الورد اللي فتح في جناين مصر». نزل نجم إلى التحرير في كل الأحداث التي صنعت تحولات هذه الثورة وردد خلف الشباب الكثير من أغنياته مع إمام، وصولاً إلى دعمه المطلق لعبد الفتاح السيسي. إذ أعلن تأييده لترشيح السيسي لرئاسة مصر وانتشرت صورته وهو يوقع على حملة «كمل جميلك» لتصيب الشباب المناهض لحكم العسكر بالذهول. لكن موته جاء ليغلق كل تلك الملفات، فاسترد «أبو النجوم» صورته وصوته كمنشد الثورة أو كما عبرت الناشطة بسمة الحسيني على صفحته على الفايسبوك: «لا أحد ينسى أنّه ظل شوكة في حلق أي نظام. مهما اختلفنا معه يكفي أنّه رفع صوته في وجه عبد الناصر في عز جبروته وبطشه، وفي وجه السادات في عز فجره، وواجه مبارك في عز صمت الشعراء والمثقفين».
على الصعيد الشعري لم ينل ما يستحقه من اهتمام نقدي جاد باستثناء مقالات كتبها نقاد كبار أمثال الطاهر مكي، وإبراهيم فتحي، وعلي الراعي. ظل شعره بعيداً عن الدرس الأكاديمي، وبالتالي خارج دوائر الاعتراف الرسمي التي كانت موضوعاً لسخرية الشاعر حتى بعد اتساع الهامش السياسي في السنوات العشر الأخيرة التي تحول فيها نجم إلى وجه تلفزيوني معروف. ثم جاءت «ثورة يناير» لتعطيه قدراً من الإنصاف. أعادت وزارة الثقافة إصدار أعماله الكاملة في طبعة شعبية وجدت رواجاً كبيراً، لكنها لم تسهم في وضع نصوص نجم في معمل الفحص النقدي حيث تميز بين الزجل المكتوب بغرض النقد الاجتماعي والهجاء السياسي وبين النص الشعري الخالص. في تجربة شعراء العامية المصريين، يقع نجم من حيث التصنيف العمري بين شعراء الستينيات، الجيل الذي جاء بعد الأب المؤسس فؤاد حداد وشاعر التحول الكبير صلاح جاهين. يُعَدّ نجم في طليعة جيل عبد الرحمن الأبنودي، وسيد حجاب، ومجدي نجيب، وفؤاد قاعود، وهو أقرب في كتابته إلى الأخير. وفيما راهنت تجربة حداد على تخليص الشعر من زجل بيرم التونسي وإعطاء العامية مخيلة جديدة توازن بين تقاليد الشعر العربي الكلاسيكي ونزعة تجديد تنهل من الشعر الفرنسي، سعى جاهين إلى مواكبة حركة التجديد المتمثلة في شعر التفعيلة المكتوب بالفصحى مع كتابة مصدرها لغة الحياة اليومية تُعلي من النزعة البصرية، وهو أمر طوّره الأبنودي، معتمداً على تراثه الشفاهي الصعيدي وأضاف إليه حجاب بسعيه للبناء على منجز جاهين والإنصات إلى مهمشي قرى الصيادين. غير أنّ «الفاجومي» كان أقرب في روحه إلى تجربة فؤاد قاعود الذي كان يكتب رباعيات زجلية تستثمر روح النقد الاجتماعي لدى بيرم التونسي. لكن نجم ــ وهو شاعر مدينة بامتياز ــ أخذ هذه الروح إلى حدها الأقصى وأحدث تحولاً حين ربط هذا النقد بنمط من الهجاء السياسي شاع في لغة الحياة اليومية مع نزعة كاريكاتورية جعلت قصائده صالحة لتقدم في فضاء الأداء الدرامي كما نعرفه في قصائد «البتاع»، «شحاتة المعسل»، «موال الفول واللحمة». وهو الفضاء الذي مكنه من العيش والاستقرار في ذاكرة تعيد إنتاج أعماله في أشكال فنية كثيرة بفضل قدرته على التقاط نماذجه الدرامية بحسه الاجتماعي الساخر الذي جعل شعره لصيقاً بالناس أكثر من أي شاعر آخر بين مجايليه.
وإلى أن تحين لحظة وضع تركته تحت مجهر النقد، لا يمكن النظر إلى تجربة نجم من دون إدراك القانون الذي حكم نظرته إلى الشعر كفضاء لممارسة الحرية والتحايل على شروط الحياة ومن دون التأكيد أنّه شاعر الشعب الذي أكد في أكثر من مناسبة أنه تعلم من الناس، وراهن على أنّ مديح السلطان مصيره مزابل التاريخ، فحسم خياره وانحاز إلى شعبه حتى قال عنه الشاعر الفرنسي لوي أراغون: «إن فيه قوة تسقط الأسوار»، وسماه علي الراعي «الشاعر البندقية».