هذه المرّة، يحلُّ سعد الله ونوس (الصورة) ضيفاً على لغة شكسبير، بعدما استضافته لغة موليير أخيراً في فضاء «الكوميدي فرانسيز» بتوقيع سليمان البسّام (الأخبار 11/7/2013). ليس نص المسرحي السوري الراحل «طقوس الإشارات والتحوّلات» الذي كتبه قبل رحيله بسنوات قليلة، غريباً عن المناخات الشكسبيرية. هناك صلة رحم أصيلة بين عالمي شكسبير وونوس لجهة النبش في الموروث المحلّي، وتعرية المخبوء، محمولاً على هتك السرديات الكبرى في قالب حكائي متين، وأوتار مشدودة إلى أقصاها. كأنّ صاحب «منمنمات شرقية» أراد نشر الغسيل المتسخ للسلطة على حبل طويل للفضيحة.
هكذا يختار حكاية واقعية جرت أحداثها في القرن التاسع عشر، استلها من مذكرات فخري البارودي، أبطالها مفتي الشام، ونقيب الأشراف، وغانية، في حبكة عاصفة، ستتكشّف تدريجاً، عن احتضار القيم والسلوكيات والنزوات، وتالياً، فنحن إزاء وليمة دسمة من المكائد والنفاق والأهواء. ورغم أنّ هذا النص ينزع إلى محاولة قلب المائدة في وجه السلطتين السياسية والدينية، وفضح التواطؤ السرّي بينهما، إذ يتعاضدان في اللحظات المصيرية، إلا أنّ سعد الله ونوس يراهن على سردية موازية تتعلّق بالخيارات الفردية، وما يعتمل في النفس البشرية من أهواء ونوازع ورغبات شهوانية، والاشتغال المتمهّل على مرايا الذات في طبقاتها المتراكمة. الوثيقة التاريخية إذاً، مجرد ذريعة لاختبار مصائر الأفراد في مواجهة خياراتهم في اللحظة المفصلية، أو بمعنى أدقّ، الوقوف عند حافة الهاوية. حالما تنتشر فضيحة نقيب الأشراف مع غانيته وردة، ودكّه في السجن، على يد قائد الدرك، حتى يتدخّل المفتي للملمة أطراف الفضيحة، والحد من هياج الرأي العام، متناسياً خلافه مع نقيب الأشراف مرحليّاً، نظراً إلى جهله ولهوه ونزواته، فيلجأ إلى استبدال الغانية بزوجة النقيب سرّاً. عند هذا الحد تذهب الحكاية إلى طبقة أخرى من الصراع. تقتحم الخشبة الزوجة بقبولها هذه الصفقة مقابل حصولها على الطلاق، وتعلن عن ذات أخرى، لطالما دفنتها في أعماقها، تحت وطأة العنف الذكوري. هنا تتخلى مؤمنة عن شخصيتها القديمة، وتختار اسم ألماسة بكامل مواصفات الغانية، لتنخرط في اللعبة تماماً، في محاولة منها لاكتشاف جسدها المقهور تاريخياً. قد نتردّد قليلاً، في الإنصات إلى ما ستقوله للمفتي، نظراً إلى الحمولة الفلسفية والبلاغة العالية التي تنطق بها، بما يشبه صرخة مكبوتة «في لحظة سقوطي، سينبت من مسامي ريش ملون، وسأحلّق في الفضاء كالطيور والنسائم وأشعة الشمس، أريد أن أقطع الأمراس الخشنة التي تحفر لحمي، وتقمع جسدي. أمراس مجدولة من الرعب والحشمة والعفة ومشاعر الدنس والقذارة. ينبغي أن أتحلّل من وصاياكم، كي أصل إلى نفسي. ينبغي أن أتجاوز خطر الانتهاك كي ألتقي جسدي، وأتعرف عليه»، فيما يدخل نقيب الأشراف، بعد استقالته من منصبه بضغط من المفتي، في حالة من الزهد والعزلة وادعاء الجنون، يحاوره طيف أبيه الذي يأتيه في المنام، داعياً إياه إلى إنقاذ روحه من التلف، كأنه «هاملت» آخر، يواجه مصيره منفرداً. أما المفتي، الرابح الوحيد في لعبة الدسائس هذه، فيجدها فرصة ذهبية في خطب ود زوجة النقيب، متستّراً بورعه الكاذب. لن ينجو الآخرون من الهلاك في هذه الدوّامة العاتية. سوف ينتحر أحدهم، على خلفية علاقة مثليّة آثمة، وسيغسل شقيق مؤمنة عاره بقتلها، وإذا بها تدفع ثمن تمرّدها على الأعراف. تنطوي تحوّلات مؤمنة على دعوة إلى التمرد على تابوهات اجتماعية مغلّفة بزيف ذكوري تاريخي، وتمارين على لحظة حرية مقموعة، لم تكن متاحة قبلاً، ما يؤدي إلى مقتلها في نهاية النص، كأن وأد الحقيقة والحرية مطلبان تاريخيان للسلطة الفاسدة. قد يبدو تحوّل امرأة تنتمي إلى طبقة الأشراف إلى عاهرة، صاعقاً، لكن سعد الله ونوس، أرادها صرخة أنثوية لإماطة اللثام عن مجتمع يتلفّع بقيم الحشمة والنزاهة والإيمان بوصفها قشوراً لممارسات ينبغي أن تظهر إلى العلن.
هكذا تُنزع الأقنعة عن شخصيات تتخبط بنزواتها، وإذا بها تتدثر بالعفن الذي ينخر داخلياتها ومكبوتاتها الموروثة، فالمفتي يقع في هوى ألماسة، ونقيب الأشراف يطارده طيف والده، بأن يتطهر من أدران جسده، كأن وردة وحدها من يعيش لحظة الحقيقة من دون زيف أو مراوغة. يستثمر سعد الله ونوس في نصه، كل مكوّنات الفرجة المسرحية، بخلائط من شكسبير وبريخت والموروث الشعبي لجهة الرقص والغناء، وتطعيم الفصحى بالعامية، مراهناً على تحويل التأمل الفردي إلى تأمل جماعي تستدعيه أطروحات الطغيان والقهر والزيف التي يبثها النص بجرعات كبيرة ومكثّفة وعميقة. أطروحات سوف تكون عتبة مركزية في كتابة سعد الله ونوس اللاحقة، عبر تحوّلها من المشهد العمومي إلى الخلية الصغرى في المجتمع العربي المأزوم، أو من بثور الواجهة الخارجية للمشهد إلى بؤرة الانتهاك في الداخل، وذلك بقراءة الجسد الأنثوي المقهور، وتفكيك أسباب علله، وتقشير الصدأ عن مسامّه، كما في نصوصه الأخيرة «يوم من زماننا»، و«الأيام المخمورة»