أفكار ألبير كامو في دفاتره كالطوفان. لكنها رغم فيضانها في الروح تشعر القارئ برغبة عارمة في أن يعيد قراءتها بتمهلٍ. وقد لا ينجح في ذلك أبداً. زائر معرض «بيروت العربي الدولي للكتاب»، هذا العام، ليس ضيفاً جديداً، لكنه كبير قطعاً، ويحضر هذه المرة بدفاتره التي ترجمتها نجوى بركات، وقسمت إلى ثلاثة أجزاء: «لعبة الأوراق والنور»، «ذهب أزرق»، «عشب الأيام» (دار الآداب وكلمة). «دفاتر ألبير كامو». يبدو هذا حميمياً، ولذلك، ينبغي القول بطريقة ما، لا تخدش الحضور الدافئ لصاحب «الغريب»، إنها دفاتر معدة لمتابعي الكاتب والعارفين بأفكاره. في المفكرة الأولى (قسمت الأجزاء الثلاثة إلى 7 مفكرات)، تتأرجح الشذرات بين نصوص أسست لروايات قد تكون الأشهر في مسيرته الغزيرة، وبين أفكار نحتها كامو ولم يرغب في اكمالها. بكلمات أخرى، سيجد المحب لصاحب الأصول الجزائريّة، أكثر من نواة مبعثرة، بعبثية الكاتب الداعي إلى يأس جميل، يصلح للكتابة فقط عن «الموت السعيد» التي نشرتها «دار غاليمار» في 1971، وتعود كتابتها إلى ما قبل ذلك بكثير، إلى جانب أفكار كثيرة تقود في نهايتها إلى تشكل هويّة «الإنسان المتمرد». تتوزع أحداث الجزء الاول بين أعوام 1935 و1942، وهي الفترة التي كتب فيها «الوجه والقفا»، و«أعراس»، أحد أجمل روايته وأشدها كآبة، إضافة إلى أشهر الروايات تقريباً «الغريب». يتنقل كامو في الجزء الأول بين فلورنسا ووهران وباريس. حب خاص يفرده لفورنسا وايطاليا: «لوحات جيوتو» الجدارية في كنيسة سانتا كروس.
البسمة الداخلية للقدّيس فرنسيس. عاشق الطبيعة والحياة، إنها تبرئ من يعرفون طعم السعادة. نور ناعق ورقيق على فلورنسا. المطر ينتظر حاقناً السماء. لوحة «الدفن في الضريح» لجيوتينو: «الألم فكّ مريم التي تكزّ أسنانها». غير أن كآبة وهران تحظى بشغف الكاتب: "وهران. خليج المرسى الكبير المشرف على حديقة أزهار إبرة الراعي الحمراء والفريزريا". وفي مفكراته الثلاث، يبدو كامو ناقماً على عمله الصحافي في أكثر من مناسبة. صحيح ان هذا ليس خافياً على قراء صاحب "أسطورة سيزيف"، والمؤلف لعدد كبير من المسرحيات التي أدت وظيفة التصدي لمعنى السلطة، غير أن مقارباته في دفاتره لم تتعرض لأي تشذيب ولم تحرص على صياغة حبكة محكمة. يمكن تسميتها بمفكرة العدم، العدم الذي آمن به كامو، ولم يؤمن بشيء مثله سوى بالكتابة.
وقد تقع الدفاتر بين أيدي قارئ نهم، ولا يستوقفه فيها سوى النصوص التي نحتها كامو على عجل، قبل أن يكمل صياغتها في رواياته المعروفة. غير أن أهميّة هذه الدفاتر، في الأصل، تكمن في ملاحظات كامو، التي يخالها البعض تجريباً، قبل أن يوضح الكاتب نفسه، في إحدى ملاحظاته في المفكرة الأولى، أن التجريب ليس فعلاً، ولا يمكن صناعته، بل إننا "نخضع للتجربة". اللافت، هو حضور أستاذه في الفلسفة، غرونييه، في كثير من المحطات، إلى جانب ما اعتاد ليه كامو في رواياته، وهو زج الفلاسفة في صلب العالم. في حساباته إنها رواية العالم، او مسرحيّة العالم، ولكي يكون الواحد جزءاً من العالم عليه أن يكون ممثلاً. يحضر نيتشه ودوستويفسكي وكثير من الفلاسفة (بعضهم يعارضهم الكاتب الجزائري المولد). غير أن الجملة التي ستستوقف كثيرين بلا شك، هي في الجزء الثاني، وقد خطت على سطر واحد: «سارتر أو الحنين إلى قصة حب كونيّة» (ذهب أزرق ص. 244) التي كتبت بين أعوام 1945 و1948، أي في فترة الخلاف بين الرجلين، علماً أن التاريخ لم ينصف كامو في هذه المسألة بالذات، وبقيت موضع سجالٍ حتى الآن. تظهر دفاتر كامو ما يعرفه الجميع: انسحابه من الحزب الشيوعي، بعد تجاوزات الجيش السوفياتي، والغولاغ.
تحضر في الدفاتر شخوص روايات كامو ومسرحياته، وأصدقاؤه وفلاسفته، وكل شيء أراده من العالم وكل شيء لم يرده. إنها دفاتر عدميّة، على صورة كامو، ولذلك هي دفاتر حميميّة، يجب أن تقرأ بعناية شديدة، وهي مخصصة للقارئ الشغوف بمعنى الكتابة، الذي يفرد له كامو مساحة وافرة في ملاحظاته الصادمة، وأحياناً في النصوص الطويلة التي يمكن القول إن كل واحد فيها رواية مستقلة. وقد أتمت الترجمة على نحو لافت وبراق. يبدو أن المترجمة نجوى بركات، تفوق الجميع شغفاً بكامو نفسه، وقد أقامت في رواياته فترة مناسبة قبل أن تنهي ترجمة «الدفاتر» والهوامش الوافرة فيها، التي تحيل القارئ إلى مكانها الأصلي في الروايات المنشورة سابقاً. بيد أن قوة كامو تكمن في الأساس، في قدرته على التصوير، وقد يجد القارئ نفسه أثناء قراءة دفاتر صاحب "الغريب"، متجولاً بين "أعراس" و"كاليغولا". و"الغريب" لها حصة كبيرة من شخصية الكاتب الكئيب. كآبة بفرح وافر، اختار كامو سجنة في مفكرته، ولم يخرجه إلى رواياته. في دفاتره، يخرج كامو مجدداً إلى العالم. تمرّ الدفاتر (عشب الأيام ص.252) على مقطع ظهر في "الانهيار"، يبرز رغبة كامو الدائمة في إخراج ما يشاء إلى العالم والاحتفاظ بالبقيّة لذات الكاتب: "ما أجده دوماً في قلب موقفي، على مرّ السنين، هو رفض الزوال من العالم، من أفراحه ومتعه وعذاباته، وهو هذا الرفض ما صنع مني فناناً".

يمكنك متابعة أحمد محسن عبر تويتر | @Ahmad_Mohsen